هكذا سيبعثون يوم اللقاء الأعظم وعين الله الرحيمة تنظر إليهم وتتودد إليهم حبا وتباهي بهم كل الخلائق وتغرقهم في جمال تجليه، جهاد وضعوا فيه خطوتهم الأولى في الدنيا والثانية على أعتاب عرش الرحمن يطيلون السجود وقد وفدوا على حضرة الرحمن القدسية. اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام. سبوح قدوس رب الملائكة والروح. الإمام بصوته الخاشع وقلبه الموصول بسنا النور يرتل آيات الله ويخترق مع صحبه بوابة الزمن الغيبي بدون عودة إلى هذه الدنيا ومآسيها العظيمة المحيطة بغزة، ولا انحباس للأنفاس تحت كمّ تلك الصواريخ التي تتهاطل وابلا لا يرحم على مستضعفين أوذوا في سبيل الله وأخرجوا من ديارهم قسرا.
لقد انتصروا نصرا مبينا.
الانتصار الأول؛ انتصار المعنى والبقاء على عهد الحب حتى إنك تسمع في كل مشهد دامية نتائجه (يا رب خذ من دمائنا حتى ترضى).. يقدمون القرابين التي كنا نسمع عنها في القصص القديمة ونستعظم حدوثها حقيقة لقصر ما في عقولنا ولفراغ ما في قلوبنا. “وتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر”.
يا خسارة الروح إن لم يتقبل منا وقد تفوقوا علينا في حجم قرابينهم لله. من منا يستطيع مثلهم أن يقدم غبار أقدام أبنائه بله أن يقدم حياتهم. نحن أشد تمسكا بالدنيا، الوهن يسكن عظامنا، وكراهية الموت قد علقت بقلوبنا. ومن أعرض عن الله أعرض الله عنه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه.. يا للحسرة!
الانتصار الثاني انتصار التخطيط. واتقوا الله ويعلمكم الله. لا انتصار بدون العناية الربانية تحف أهل الحق في ميدان الإقبال. علمهم الله تدبير السير إليه وحسن استعمال الوسيلة، وجهز لهم الطريق محملة بتوفيقه مباركة برضاه عنهم. “فكنت يده التي يبطش بها”، يحملهم ربهم إلى النصر حملا ويتخذ منهم شهداء ويحجزون عنده بمن سبقوهم في ساحة الجهاد مقاعد في مجالس التقريب ليستفردوا بجمال النظر إلى وجهه الكريم. هنيئا لهم وربط على قلوبهم هنا حتى يكتمل الجزاء هناك.
الانتصار الثالث انتصار الأمل، “إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا”، “ولا يستخفنك الذين لا يوقنون”. يستعجلون السير إلى الله قبل أن يرتد إلى الأمة طرفها فتستفيق متأخرة عن ركبها وقد صاروا السابقين بعدما كانوا لاحقين. إنما السبق سبق الجهاد في زمن القعود، وفي الطليعة رجال تخلصوا من عقال الدنيا وجعلوها معبرا ليس إلى الآخرة فقط وإنما إلى الله خالق السماء والأرض؛ يرغبون وصله والتباهي بمن قدموا وما قدموا في سبيل أن يرضى. عجلوا إليه بكل ما يملكون ولا يفصلهم عن الآخرة إلا رشقة هنا لتطوي الزمان هناك.
الانتصار الرابع انتصار الوصول. أتدرك جمال موتهم أنت الذي تقطع قلبك لتقطع أشلائهم؟ أتظن وفادتهم على الكريم وفادة صماء؟ بل هم المكرمون المعززون المنعمون المتوجون بأكاليل الحب الإلهي.. هم الموصولون المخصوصون بالإنعام… يقف لهم الأنبياء والصديقون والشهداء فرحا بمقدمهم، وتزدهي العلياء لحضورهم؛ مآثم الأرض أفراح السماء، إخوان سيدي رسول الله ﷺ الذين فاضت عين الشوق إليهم ولمَّا يوجدوا بعد. أفرغ عليهم ربهم صبرا بقدر أهل الأرض عددا ليثبتوا في مواقع جهادهم لأن الثمن أكبر مما تتصوره قلوبهم وهو العظيم الذي يرجى لكل عظيم. يكفيكم أحبتي بسمة سيدي رسول الله وهو يشير إليكم بالدنو منه، يكفيكم رمقة عينه الشريفة، يكفيكم حضنه الشريف ليمسح على كل أوجاعكم، يكفيكم أن الله راض عنكم، فارضوا عنه حتى تكتمل لكم الحسنى وتفوزوا فوزا عظيما، ولا يحزنكم تباطؤ من تباطأ ولا خذلان من خذل، وسيروا ولا يلتف منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون.
شهداء الفجر
نشر بتاريخ
نشر بتاريخ