صفقة المغول تحت سِنديان غزة

Cover Image for صفقة المغول تحت سِنديان غزة
نشر بتاريخ

لطالما روى الأدباء في قصصهم عن شجر السنديان، ولطالما زَيَّنَ الشعراء قصائدهم باستعارات وتشبيهات من شجر السنديان، ولطالما شكلت السنديان بطلات للأساطير والحكايات القديمة، فكان ممن تغنى بها شعرا محمود درويش في قصيدة رائعة بعنوان “هدنة مع المغول أمام غابة السنديان”، كان حينها درويش متشائما من الوضع العربي عامة والقضية الفلسطينية خاصة، فأنهى قصيدته الجميلة والطويلة قائلا:

البنَادِقُ مكسورة..

والحمامُ يطير بعيداً بعيداً..

لم نجد أحداً ههنا

لم نجد أَحداً…

لم نجد غابة السنديانْ!

نم قرير العين يا درويش، لقد وجدنا غابة السنديان، بل لقد تحولت كل غزة إلى غابة سنديان، ومَرَّغَت أنف المغول الجدد في ترابها.

فلماذا هذا التشبيه وهذا التماثل بين مدينة غزة وشجرة السنديان؟

تؤكد الدراسات البيولوجية أن شجرة السنديان تُعَمِّر ما بين 500 إلى 2000 سنة، أما غابة السنديان قد يصل عمرها ما بين 600 ألف ومليون ونصف سنة، وهو ذات العمر الذي ظهرت فيه الحياة الاجتماعية في أقدم مدينة في العالم وهي أريحا بفلسطين. فمن شدة صمود غابات السنديان للحرائق والكوارث الطبيعية وعودتها الدائمة إلى الحياة من تحت الركام، اكتست السنديان طابع الأسطورة، وأضحت غابتها مكانا مقدسا دائم التواصل بالعوالم الروحية، تماما كما هي غزة هاشم، سنديان الشام وأسطورتها، التي حدثوها بعد السابع من أكتوبر عن الفناء، فحدثتهم هي عن البقاء، وقالت لهم بكل اللغات ستعيش غزة مثل شجرة السنديان:

  • سليلة القوة والحكمة
  • مهيبة الهيئة
  • دائمة القوة
  • داكنة الخضرة
  • كثيفة الفيء
  • محمرة الظلال
  • سريعة الخصوبة
  • حامية القيم
  • ربانية الأخلاق

في إحدى رواياته قال الأديب الإنجليزي ألفريد أوستن: “إن كائن السنديان لم يحمل بين جوانحه ورقة كاذبة أو قلبا قاسيا لذلك عاش أطول حياة”.

مثل قلبك يا غزة، ومثل إنسانك، ومثل أخلاقك، ومثل قيمك الصادقة التي ألقت بظلالها على العالم حين كنت تطلقين سراح أسرى العدو الغاشم، فيخرجون عبر أنفاقك من بين الركام والأنقاض والأشلاء والدماء والابتسامات مرسومة على وجوههم، والفرح باديا على مُحَيَّاهم، والعافية تؤكد كرم وفادتهم رغم أن بني جلدتهم كانوا يقصفون أبناءك ونساءك وشيوخك ورجالك… ويقتلون كل من يدب فوق أرضك.

آه! كم كانت صور أسرى العدو وهم يصافحون ويُوَدِّعُون المقاومين صادمة للعالم الغربي الرسمي، الذي طالما حَبَكَ سردية تُصوّر الفلسطيني أنه يتعطش للدماء ويحرق الأطفال ويغتصب النساء ويكره الإنسانية، تماما كما صرح بذلك الرئيس الأمريكي بايدن في أول خروج إعلامي له بعد عملية طوفان الأقصى، ولسوء حظه انهارت كل هذه السردية أمام صورة الأسيرة الطفلة المحررة وهي تحمل كلبها وتخبر العالم أن المقاومين كانوا لا يعتنون فقط بها بل أيضاً اعتنوا بكلبها، فكانوا يحرسون على طعامه وشرابه وراحته… في الوقت الذي منع فيه الكيان الطعام والشراب والدواء والهواء عن كل سكان غزة!

لذلك، لم تكن أحداثك مجرد أخبار ووقائع، بل كانت نقلا مباشرا لرسائل الله إلى كل العالم؛ لقد كنت بوابة السماء في الأرض يعرج منك الشهداء، وينزل إليك وحي السماء أقدارا من رب العالمين، وحيا طريا قريب العهد بربه، ليس ألواحا ولا كتبا، بل قيما وأخلاقا تعيد للإنسان آدميته وتذكره بأصالته. هذا الوحي الإلهي المبثوث في كل مساحاتك المقدسة، وفي كل آدمي يعيش فوق أرضك وتحت ثراك الطيب، هو الذي أحيا العالم من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه، بعدما دَبَّت روح هذا الوحي الأخلاقي في أبنائك، ثم سافرت لتعانق كل النفوس السليمة والأرواح النقية وتدفعها للخروج إلى شوارع العواصم منادية باسم فلسطين وباسم شعبها الأسطوري!

لقد أصبحت عاصمة عواصم العالم، بل إنك بوابة العالم! صحيح أن موقعك لا يشكل محورا ومركزا استراتيجيا في العالم، لكن رمزيتك بعد معركة طوفان الأقصى أضفت على العالم عمقا إنسانيا جديدا، وأعادت للحياة شيئا افتقدته اسمه “المعنى”؛ صمودك الأسطوري، ودماء شهدائك، وركام بيوتك، وآهات جرحاك، ومعاناة نازحيك… كلها شكلت رسالة وحي لكل العالم مفادها: “آن الأوان لهذا العالم أن يسترد آدميته وكرامته وحريته، ويكسر أغلال الصهيونية العالمية التي زيفت حقيقة وجوده”.

على ذلك نقول، إن غزة لم تنتصر لنفسها، ولا لإنسانها، ولا لوجودها فقط، بل إن غزة انتصرت لآدمية الإنسانية على الدوابية الحيوانية، وانتصرت لمعنى الوجود على الوجود بدون معنى، وانتصرت للأمل والصمود على اليأس والاستسلام…

ولأن غزة انتصرت لكل هذه المعاني، كان حَرِيا بكل أحرار العالم أن يفرحوا ويحتفلوا ويهتبلوا بانتصارها، لأنه انتصار للإنسان، كل الإنسان بما في ذلك الصهيوني الذي كان يقتل ويدمر ويبيد، فحسْب هذا الانتصار أنه أوقف همجيته وكبح دوابيته وأرغمه على التوقف.

اطمئن يا درويش لقد وجدنا غابة السنديان!

فغزة السنديان، غزة الأسطورة، غزة الحكايات القديمة الجديدة.. قد هزمت المغول الجدد وأرغمتهم على وقف إطلاق النار وجر ذيول الخيبة والعودة بخفي حنين، وضربت لهم موعدا لن تخلفه مع تحرير شامل لفلسطين من النهر إلى البحر، تحرير تعانق خلاله غزة هاشم شقيقتها القدس بعد طول غياب وفراق؛ تحرير يجوس خلاله رجال الله كل الديار، ويسوءوا وجوه الظالمين والمغتصبين، ويدخلون الأقصى كما دخلوه أول مرة، فيكون أمر الله مفعولا، ووعده مقضيا. سيزحف سنديان غزة على غرقد المحتل الغاصب ويجتثه من تحت الأرض ومن فوق الأرض حتى لا يبقى مكان يختبئ وراءه صهيوني مغتصب.

إنهم يرونه بقوتهم وجبروتهم بعيدا، ونراه بيقيننا وتوكلنا على الله القوي الجبار قريبا.