1- فن الحضور
في زمن المتغيرات المجتمعية السريعة وزمن التواصل اللحظي والسيولة الفكرية الغزيرة بتناقضاتها واختلالاتها المعرفية وسلطتها الرمزية، لا يسع المرء إلا الانخراط في عصر المزامنة الفورية تواصلا وعرضا للأفكار بمنطق يساير الواقع وتحدياته، ونهج يناسب المرحلة العمرية للمشاريع المجتمعية التي أخاطب ودها، وأستعطف بعضا من اهتماماتها، عسى أجد لطرحي سامعا ولبعض أفكاري أيد مشمرة تبذل جهدا في تنزيل رؤاها وتصوراتها بحافز ملفع بيقين راسخ وطموح وإرادة. وفي المقابل، لا يسع المرء إلا انتهاج الروية مبدأ لعرض أفكاره والاختصار منهجا في تنزيلها والملاءمة الشكلية سياسة لترويجها في عوالم افتراضية قلبت موازين التأثير وغدت إطارا لترويج الأفكار. ولما لا لصناعة التغيير.
على هذا الأساس، ارتأيت خوض غمار تجربة تواصلية على شكل مقالات مكثفة، تعالج موضوعات العمل التطوعي الشعبي والمجتمع المدني والجمعيات والعمل التعاوني الخيري، وارتباطها الوثيق بمواضيع الإحياء والنهضة والوعي الجمعي والسياسة والتغيير، بل والاجتهاد في ربط عجلة العمل الجمعوي الاجتماعي في تفاصيله وحيثياته الدقيقة بمصير الأمة والتعبئة لنهضتها، ورسم خطوط ومسارات تمكن المجتمع المتراحم من الانتقال من واقع متداع إلى مستقبل واعد. ثم تجاوز المأزق الفكري والمصيدة المعرفية التي لج فيها العقل العربي الذي استكان لنظم معرفية مستوردة بحمولة حضارية مستسلمة تعالج قضايا المجتمع المدني بمنطق منسحب من حيز السياسة وتجاذباتها إلى حيز العمل الخيري الفردي المستكين، المتفاعل بمنطق الثواب اللحظي دون بوصلة توجه الرؤية إلى أفق آخر ومآلات كبرى تدعم الأمة في نهضتها.
مقالات تجمع في طياتها بين العرض المختصر الذي يسمح للقارئ المهتم الاطلاع والاستفادة ما أمكن، وبين القصد في عرض الأفكار، حيث يغدو البناء التراكمي وتركيب الأفكار واتصالها أساسا مكملا لاستيعاب الأفكار المعروضة التي نجزم ببساطتها في مقابل قوة تأثيرها وفعاليتها في استنهاض الأفراد والجماعات، وفي ترسيخ قيم البناء العام في ذات الأمة والإحياء في المجتمع. أفكار نستشرف بها واقعا آخر يكون فيها كل فرد من الأمة فاعلا متفاعلا منتظما في حلقة بنائية من حلقات البناء والتغيير. فبعض الأفكار البسيطة والمتناهية في الصغر ما أن يتم بثها في المجتمع بمنطق التوليد والتكاثر والفعالية إلا وتغدو نقطة تحول فاصلة، يتشكل زخمها مخترقا الزمن ويعظم أثرها كسيل جارف يجتث الخبيث من الجذور وإن كان عمقها قرونا من الزمن.
آمل أن تعينني خبرتي المهنية في عرض مشاريع وأفكار بنائية، أنتقيها بعناية، من هنا وهناك، كالرحيق آخذه حيث الرحيق، حيث أقوم بإعادة ترتيب وتوضيب الكائن منها بوضوح تام، في إطار من الضوابط العلمية التي تصوغ أفقا متكاملا ولو تم عرضه مجزءا عبر مراحل. وعزائي في ذلك أن النماذج الفكرية الشمولية لا يمكن أن تستقر كاملة إلا بعد مسار تفاعلي من البناء الفكري والنظري المصاحب للممارسة والتجربة، وأن النظريات والمشاريع الكبرى لا تستوي قائمة من تلقاء نفسها، بل يشتد بناؤها وتتكامل بعوامل التداول والتلاقح والتناظر والتدافع مع مرجعيات فكرية أخرى وبتجارب مجتمعية مشابهة استفادة وتقويما وتجديدا في المنهج عبر مسار زمني غير يسير. هذا في حق الأفكار والمشاريع التغييرية الكبرى، أما ما أعرضه قاصدا وحامدا المولى عز وجل على ذلك، فهو ليس إلا حلقة من حلقات البناء والإحياء المكمل لصرح مبارك ساير في التشكل، نراه قريبا ولو أن دونه عقبات.
هي أفكار إذا، تستجدي فن الحضور في اهتمامات الناس كفكرة وفي ثنايا المجتمع عملا وفعلا يثمر حراكا فكريا وثقافيا ناهضا. أفكار أردتها أن تكون داعمة لمشروع التغيير العام الذي تنشده الأمة بكل أطيافها المتوثبة والصادقة، داعمة ومشيدة لخطوات البناء الأولى في عمق المجتمع، بل وفي صلبه، عبر مؤسسات المجتمع المدني الوسيطة التي يقودها الناس، العامة من الناس، باختلاف حيثياتهم وانتماءاتهم، مؤسسة لفقه الإحياء والنهوض في وعي الفرد والجماعة وفي ثنايا المجتمع. والحمد لله رب العالمين.