صلب المجتمع… أفكار داعمة (4)

Cover Image for صلب المجتمع… أفكار داعمة (4)
نشر بتاريخ

الجمعيات وقضية الأقصى: من الإحسان إلى التحرير

في خضم طوفان الأقصى ومآسيه المؤلمة الناطقة بالألم، صادف أن التقيت ثلة من الفاعلين الجمعويين وأطر سياسية مهتمة بقضايا الأمة والمجتمع، ودار الحديث بيننا عن أدوار الجمعيات في مثل هذه القضايا الملحة والاستراتيجية في ظرفية استثنائية كالتي تعيشها الأمة اليوم، وقد أجمعوا على أهمية العمل الجمعوي في الموضوع وعلى أولوياته الملحة في التعريف بالقضية الفلسطينية وتعبئة الناس للتضامن مع أهل غزة المكلومين وترسيخ روح القضية في وجدان الناس، من خلال تنظيم الجمعيات لفعاليات تواصلية وتأطيرية، وتنويع الأنشطة بما يلامس مختلف الفئات.

وقد أدهشني حينها وأثارني، عمق الهوة الفاصلة بين صلابة المقصد ونبل المبتغى، وبين رخاوة الوسائل المقترحة وانحباسها في طي مسارات معرفية معتادة، تلامس القضية دون أن تبلغ جوهرها. لم أشارك حينها في الحديث الدائر تقديرا لنوايا صادقة غاب عنها بعضا من فقه الأولويات، لكني بعدها صغت مقالا تفاعليا مع ما طرح، هذا نصه:

حينما يغيب وعي الحضارة في مشاريعنا وبرامجنا الجزئية، ويتوارى المقصد من الأعمال الخيرية والاجتماعية التي يسعى الناس لأجلها في الشؤون العامة، فإن الأعمال المنجزة والثمار الحاصلة والمحققة قد يختل ميزان أهميتها وأولويتها، فتبدو كأنها تراكم عشوائي، يفقد روح البناء. ومع مرور الوقت، قد تتحول هذه الإنجازات إلى مرجعية لأعمال لاحقة، فتستمد من ذلك الركام خصائصه السلبية، مما يعيق حركة الأمة، ويحدّ من فعاليتها، ويصرفها عن مسار النهوض.

تتباين تقديرات السياسيين وأصحاب المشاريع الكبرى بشأن مداخل التغيير وأولوياته الملحة في المرحلة الراهنة، ارتباطا بموازين القوى والتحديات الكبرى التي تواجه المجتمعات المنهكة بالمشاكل والمثخنة بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والمتأبطة لتاريخ مليء بالانتكاسات والصراعات الداخلية والخارجية. وقد يظهر منذ الوهلة الأولى أن المسارات المعتادة والمجربة كالمشاركة السياسية والترافع الفكري والمعارضة الحزبية، وقبله الدعوة العامة، الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، هي الأقدر وحدها على قيادة التحول وصناعة التغيير. وهي بالفعل مسارات جوهرية حاسمة، حاضرة بحيثياتها معلومة بتفاصيلها ومهمة للغاية. غير أن موضوع العمل الجمعوي بالذات، رغم ما يتمتع به من قدرة كامنة، لا يحظى لدى الكثيرين بالمكانة نفسها في مستوى الفعل المؤثر في مسارات التغيير، بل إن الحديث فقط عن الجمعيات الخيرية والمنظمات غير الحكومية والعمل التعاوني في خضم هذا المسار التغييري الملح وهذا الأفق الاستراتيجي الصلب قد يحدث خلخلة معرفية في وعي الفاعل السياسي الذي رسخ في ذهنه أن الجمعيات والتعاونيات ليست إلا فضاءا للترفيه والترويح والتثقيف المفضي للانخراط في حلقة العمل الخيري الإحساني ودوامة الأعمال الاجتماعية والتوعوية التي لن تنال من واقع المجتمع شيئا إيجابيا يذكر إلا بمقدار ما يجعلها تضفي على المجتمع مسحة من تضامن وتآزر وعمل خيري قد يُنظر إليها، في بعض التصورات، كامتداد طوعي أو غير مباشر لمؤسسات تديم حالة الاستبداد أكثر مما تقوضها.

لكن، قد يتساءل البعض، في ظل طوفان الأقصى ومآسيه التي أثقلت كاهل الأمة وأفجعت ضمير الإنسانية جمعاء:  هل من المناسب الحديث عن الجمعيات والعمل المدني في مثل هذه اللحظة التاريخية العصيبة؟

وهو تساؤل مفهوم، بالنظر إلى الصورة النمطية التي ترسخت في الأذهان عن الجمعيات باعتبارها فضاءً للأعمال الخيرية أو الأنشطة الثقافية الترفيهية، البعيدة عن صلب القضايا السياسية المصيرية.

غير أني أرى، بيقين لا يداخله شك، أن هذا الفهم القاصر لا يُنصف الإمكانات الحقيقية للعمل الجمعوي، بل يختزل دوره في لحظة تحتاج إلى كل أدوات النهوض.

إننا في أمسّ الحاجة إلى إعادة النظر في موقع الجمعيات، لا باعتبارها ملحقًا للعمل السياسي أو شريكًا في العمل الإحساني فحسب، بل كفاعل أصيل في معركة الوعي والتحرير، يُسهم في الانتقال بالأمة من واقع الانبطاح والتردي إلى واقع متحفز وناهض بمهمة الإحياء الحضاري.

عندما سئل الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله عن طريق تحرير فلسطين وأدوار الأمة في ذلك، أجاب قائلا: “أولوية الأولويات هي تقويض الاستبداد”، وهو جواب في غاية العمق والوضوح. فالاستبداد، كما كان يقول الإمام، هو أصل البلاء، ومصدر الانهيار، وعائق التحرير، ولا يمكن أن تُسترد المقدسات، وعلى رأسها المسجد الأقصى، ما دام الاستبداد ممكّنا، يكمم الأفواه، ويقتل الوعي، ويمتص طاقات الأمة.

هنا، وهنا بالذات مربط الفرس، وهذا بالتحديد هو لب الأمر وجوهر المقصد من عمل الجمعيات والمنظمات الخيرية في علاقتها بالقضية الفلسطينية وباقي القضايا الاجتماعية والسياسية. وهو أن تكون عامل تحريض وتحفيز وترشيد وتوجيه وتوعية لعامة الناس ولجل فئات المجتمع، تعبئة للجهود وتنظيما للمجهودات بغرض رص صفوف الجماهير الشعبية في زحف متزن ومرن يكبح جماح السلطوية ويقوض بناءها في نفوس الناس قبل كيان المجتمع، وفي نفس الآن يكون معينا على حمل عبء التغيير ومنخرطا في كل تفاصيل الحياة السياسية العامة، مشاركة وتدافعا وتدعيما للجهود المبذولة في سبيل تقويض الفساد والاستبداد، ثم مواصلة مشوار النهوض العام الذي تنتظره الأمة دولة دولة وقطرا قطرا، حتى تعم روح من النهوض كل كيان الأمة لتقوى على مغالبة الاستكبار العالمي بأذرعه الصهيونية والرأسمالية.

هنا تبرز الجمعيات كخيار استراتيجي وكقوة مجتمعية يمكن دمجها في صلب المشاريع التغييرية استحضارا وتدعيما ورعاية وتأسيسا لجيل جديد من الجمعيات الجادة والهادفة التي تفتل في صناعة الإنسان الفاعل، وبناء وعيه وتوجيه سلوكه العام نحو المقصد والغاية. وإنه لا نهوض بغير حرية، ولا حرية بغير وعي، ولا وعي بغير مؤسسات تصنعه وتغذيه. من هنا، نؤمن أن دور الجمعيات لا ينفصل عن معركة التحرير، بل هو في صلبها، وأن كل بناء مجتمعي لا يجعل من تقويض الاستبداد نقطة الانطلاق، فلن يصل يومًا إلى تحرير القدس، ولا إلى تحقيق كرامة الإنسان.