“لا تفصل الصلة برازخ الموت”
صلة الولد بوالديه بعد انتقالهما إلى دار البقاء؛ من أعظم أبواب صلة الرحم. فتكون الصلة دعاء خالصا وعملا صالحا لمن هو ثاو في قبره مفتقر إلى رحمة الكريم الوهاب.
وقد سئل الرسول النبي صلى الله عليه وسلم عن حق الوالدين بعد مماتهما، قال سائل: “يا رسول الله، هل بقي من بر أبويّ شيء أبرهما بعد وفاتهما؟ قال: “نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما” (1).
فتحصَّل من هذا التوجيه النبوي أن بر الوالدين غير مظروف بحياتهم، وإنما البر صلة دائمة لا تفصلها برازخ الموت. والخيط الناظم لوجوه البر التي حث عليه النبي صلى هو “صلة الرحم” لمن هم أولى الناس بالوصل والبر:
أولها: الصلاة عليهما، وهي صلاة مخصوصة، بأحكام مخصوصة لُبها الدعاء لهم والتضرع إلى الله بأن يتقبلهم بقبول حسن وأن يرحمهم برحمته الواسعة، والترحم عليهما أحق الحق ومن أعظم البر في الحياة والموت.
وثانيها: الاستغفار لهما: وهو الدعاء وطلب المغفرة لهم من الغفور الرحيم امتثالا لقوله عز وجل: وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا (الإسراء، من الآية 24). وهو دعاء موصول يجدد صلة الرحم بين الوالدين ونسلهم الطيّب.
وثالثها: إنفاذ عهدهما من بعدهما؛ الوصية. وهو من أعظم أبواب الوصل والبر بهما، سواء كانت عهودا مادية أو معنوية متى كانت موافقة لشرع الله ومقاصده.
ورابعها: إكرام صديقهما؛ تقديرا للمحبة والصحبة التي جمعتهم بالآباء، وتجديدا لهاته الصلة القائمة على المودة والأخوة في الله نيابة عن الوالدين، طمعا في نيل برهمها بعد الممات.
وخامسها: صلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، فعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن أبر البر صلة الولد أهل ودّ أبيه” (2).
وهي من أعظم أبواب البر بالوالدين بعد الوفاة، لتعلقها بصلة الرحم، ولأنها جمعت فضائل هذه الصلة؛ بحيث جمعت بين صلة الرحم بالأبوين، وصلة برحمهما من الأعمام والأخوال وغيرهم من ذوي القربى، بالإحسان إليهم وزيارتهم وتفقد أحوالهم والتصدق على المعسر منهم، قال صلى الله عليه وسلم: “صدَقتُكَ على المسلمينَ صدَقةٌ وعلى ذي الرَّحِمِ صدَقةٌ وصِلةٌ” (3).
والجامع بين وجوه البر الخمسة أنها بر وصلة رحم بالوالدين بعد الممات، فالدعاء والاستغفار بر وصلة، وإكرام أصدقاء وأقارب الأم بر وصلة رحم.
والولد البار من وفقه الله ليكون عملا صالحا لوالديه ممتدا في الزمان، لا تفصل الصلة برازخ الموت، ولا يحرم الأب والأم من خراج التربية الصالحة لنسلهما إلى يوم الدين. قال صلى الله عليه وسلم: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث” منها: “ولد صالح يدعو له” (4).
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن الله عز وجل لَيرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب، أنَّى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك” (5)؛ والحديث يشمل جميع الأولاد الصالحين ذكورا وإناثا.
وأعظم بها من “صلة رحم” تكون سببا في رفعة مقام الوالدين في جنات النعيم، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. فاللهم بلغنا هذا المقام ولا تجعلنا من المحرومين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسند المكيين، من حديث أبي أسيد الساعدي، رقم الحديث 15479.
(2) أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة أصدقاء الأب والأم، ونحوهما، (4/ 1979)، رقم: (2552).
(3) رواه النسائي. السنن الصغرى، كتاب الزكاة، باب الصدقة على الأقارب، رقم الحديث 2566.
(4) رواه مسلم في كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته 3/ 1255 (1631).
(5) رواه أحمد 2/ 509، وابن أبي شيبة 3/ 58 (12081)، وعنه ابن ماجه في كتاب الأدب، باب بر الوالدين 2/ 1207 (3660)، قال العراقي (المغني عن حمل الأسفار 1/ 270 (1037): إسناده حسن.