مقدمة
جاءت الرسالة المحمدية للبشرية جمعاء، داعية للمحبة والسلام، وهادية الإنسان لأفضل الأعمال وأكملها حتى يعيش السكينة والطمأنينة، موضّحة بشرائعها ما هو واجب ومستحب، آخذة باليد في طريق العبودية لله سبحانه وهي طريق الفلاح والصلاح التي يحيى بها الإنسان الحياة الطيبة في كنف التآزر والتعاون والمحبة، إذ الإنسان لا يقوى على العزلة والبعد عن الجماعة بطبيعته التي فطره الله عليها؛ وهي الكينونة الاجتماعية التي تخلق عنده التوازن الروحي والنفسي والمادي.
ومن أهم عوامل استقرار الإنسان، استقرار علاقاته الاجتماعية وعلى وجه الخصوص علاقاته مع ذوي القربى والرحم؛ التي خصها الله بمكانة متميزة في أحكامه الشرعية، لما لها من أثر فاعل وحاسم في استقرار الأسر التي باستقرارها يستقر المجتمع ليخلق بيئة صالحة لمسيرة الإنسان في حياته؛ جدا واجتهادا وتطورا في متطلبات الحياة الدنيا، وسيرا مطمئنا وقاصدا إلى الله تعالى وطلب وجهه الكريم والدار الآخرة.
أهمية صلة الرحم
ولأهمية علاقة صلة الرحم في هذا الاستقرار فقد خصها الحق سبحانه وتعالى في كتابه العزيز بالذكر من خلال آيات بينات تحدد أهميتها، نستشف من خلالها ما لنا وما علينا في هذه العلاقة الخاصة، يقول الحق سبحانه وتعالى: وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)، وقد جاء في تفسير الطبري لهذه الآية الكريمة عن مجاهد: “هي قول الرجل أسألك بالله وبالرحم”، وعن ابن زيد: “اتقوا الأرحام أن تقطعوها” (2). و في كلا المعنيين تظهر أهمية مكانة الرحم في كتاب الله الذي ختم الآية برقابته سبحانه على أعمال عباده ليذكرنا أنه رقيب على من وصلها ومن قطعها ليحصي علينا أعمالنا غدا يوم القيامة، ولو لم تكن صلة الرحم عبادة من العبادات الجليلة ما ذكّرنا المولى عز وجل برقابته علينا إذا ضيّعنا حُرمتها، وهي من أحب الأعمال إلى الله تعالى كما ورد في الحديث القدسي عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “قال الله تبارك وتعالى: أنا الله الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته” (3)، وبهذا توجب صلة الله للواصل ووصله سبحانه للعباد؛ إحسانه وعطاءه وتتابع خيره وفضله عليهم، فقد وردت أحاديث كثيرة تظهر فضل عبادة صلة الرحم على العباد، عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من سره أن يمد له في عمره، ويوسع عليه في رزقه، ويدفع عنه منية السوء فليتق الله وليصل رحمه” (4)، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أحب أن يبسط له في الرزق وينسأ له في أثره، فليصل رحمه” (5). فأي كرم بعد كرم الله وإحسانه يناله العبد حين القيام بهذه العبادة العظيمة؛ التي آل الله على نفسه أن يصل من قام بها صلة حب وعطاء في الرزق وذكر طيب في الحياة وبعد الممات، فيمد له في عمره بهذا الذكر بين ذوي رحمه الذين وصلهم وعفا عنهم ورحمهم ونصح لهم وأعطاهم عند الحاجة ولم يغفل عن صغيرهم ولا كبيرهم، صلة من الله يفرح العبد بها في الدنيا ويوم القيامة؛ يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وقد توالت آيات كثيرة في كتاب الله تذكِّر بذوي القربى والإحسان إليهم أو النهي عن قطعهم وتجاوزهم، قال تعالى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (6)، فالأرحام أحق الناس وأولاهم بالإحسان. وقد كان التأنيب من الله تعالى لبني إسرائيل لمّا لم يلتزموا بالأحكام والميثاق الذي أخذ الله عليهم، والذي كان ضمنه الإحسان إلى ذوي القربى، قال الله تعالى: إِذْ أَخَذْنَا مِيثَٰقَ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ (7)، بل إن الله تعالى نهى عن قطع الرحم حتى مع الأذى منهم، حيث نزلت آية في بعض من كان قد آذاهم بعض قرابتهم فحلفوا أن لا يواصلوهم، قال تعالى: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى (8)، لأنّ صلة الرحم التي أراد الشارع هي صلة تتجاوز عن الأخطاء وتصفح عن الزلات وتحرص على الود والتكارم رغم ما يعتري علاقات الناس من نقائص هي من طبيعة البشر، فلا يجد النفور والعداء طريقا للقلوب بين الأقارب، حتى تبقى لحمة الأسر متينة تضفي عليها أمنا وطمأنينة وسكينة نفس تجعل الفرد أكثر عطاء واستقرارا، ليصل الشارع بهذا إلى المقصد الأسمى استقرارا مجتمعيا تكافليا؛ لا يستعلي فيه الغني على الفقير ولا يشعر الفقير وذو الحاجة أنه وحده في مواجهة عواصف الزمان، وبهذا جاءت قولة سيدنا علي كرم الله وجهه تبين أهمية الرحم العشيرة حيث قال: “أكرم عشيرتك، فإنهم جناحك الذي به تطير، وأصلك الذي إليه تصير، ويدك التي بها تصول” (9).
ومن الآيات الدالة أيضا على أهمية ومكانة الاهتمام بذوي القربى في الإسلام قول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى (10)، فجعل إيتاء ذي القربى صنو العدل والإحسان، وهما ركيزتان وغايتان ساميتان عليهما مدار ديننا الحنيف، وكل ما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر ونهي فهو لتحقيق هاتين الغايتين، والعدل الذي أمر به الله سبحانه و تعالى يشمل العدل في حقه وحق عباده، كما أن الإحسان هو إحسان في العبادة و المعاملة، وإذا كان ذوو القربى داخلون في عموم العباد الذين أمر الله بالعدل والإحسان إليهم، إلا أنه أبى سبحانه إلا أن يخصهم بالذكر لعظم حقهم والتأكيد على صلتهم وبرهم والإحسان إليهم، فيكون إيتاء ذوي القرابة بالعدل معهم والإحسان إليهم بجميع أوجه الإحسان خُلقا وعطاء وصبرا وصلة.. والعدل والإحسان يبنيان على أساس الإيمان بالله تعالى، ولذلك جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم صلة الرحم علامة لإيمان العبد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت” (11).
لم الترهيب من قطع الرحم؟
لكل الأسباب السابقة وغيرها كثير فقد الرهّب الشارع الحكيم من قطع صلة الرحم ترهيبا كبيرا، وجعل عاقبته خسرانا في الدنيا والآخرة، حتى تتأكد مكانته في التركيبة البنائية للمجتمع المسلم الذي هو مجتمع التآخي والتآزر والمحبة والسلام، أمور لا تبنى إلا على أساس متين بعلاقات صحية بين الناس وعلى وجه الخصوص بين ذوي القرابة، حيث الأسر والعوائل هي حاضنة النشء الذي ينبغي أن يفتح عينيه على الود والتآزر والمحبة، ويترعرع وسط البذل والعطاء والإيثار، فيخرج للمجتمع محبا بادلا معطاء، ومن لم يفعل ذلك مع ذوي القربى فأنى له أن يفعله مع غيرهم، لأجل ذلك كان قطع الرحم فسادا، لأن آثاره أبعد وأعمق مما نظن، ولا تقف عند العم والعمة والخال والخالة.. وغيرهم من ذوي القرابة، ولكنها موجة عاتية يتردد صداها في المجتمع كله لتجعل منه مجتمع الجفاء والحقد والبغي والظلم والأنانية.. وهي أوصاف تتنافى ومعاني الإيمان والعدل والإحسان، وقد اعتبر الحق سبحانه وتعالى قطع الرحم فسادا من الفساد استحق عقوبة اللعنة والإبعاد عن رحمته، حيث كان الصمم والعمى عقوبة نافذة في حق المفسد القاطع لصلة رحمه فلا يتبين هدى الله ولا يسمع مواعظه في تنزيله، قال عز من قائل: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (12)، وشدة العقوبة هاته التي يخسر بها الإنسان رضى ربه وفوزه في الآخرة هي على قدر الذنب الذي أراد الله سبحانه وتعالى أن نستشعره من خلالها، فنجاهد النفس الأمارة بالسوء والأنانية المستعلية ووسوسة الشيطان لنجني ثمار الوصل والقربى في الدنيا والآخرة.
اللهم اجعلنا من الواصلين لأرحامنا طلبا لرضاك واتباعا لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
(1) سورة النساء، الآية 1.
(2) تفسير الطبري.
(3) رواه الترمذي وأبو داود وأحمد في المسند.
(4) مجمع الزوائد للهيثمي.
(5) صحيح البخاري، رقم 2067.
(6) سورة الأنفال، الآية 75.
(7) سورة البقرة، الآية 83.
(8) سورة النور، الآية 22.
(9) موقع حكم www.hekams.com
(10) سورة النحل، الآية 90.
(11) صحيح البخاري، رقم 6138.
(12) سورة محمد، الآيتان 22-23.