فوق النجاح…
يبدو أن الأستاذ أوتي حكمة كبيرة في جمعه بين فضيلتين متكاملتين هما:
1- الإصرار على حقه في التفكير والتعبير عن الرأي والتجمع، وتأسيس المنابر الإعلامية.
2- عدم الانجرار إلى الوقوع في آفات السرية والعنف أو الخمول والاستقالة أو الاستكانة والمداهنة.
فجنب نفسه ومدرسته أساليب العنف والانتقام والاغتيال السياسي. وقد بيَّن في أعداد المجلة الخطوط العريضة لمشروعه التجديدي المجتمعي السلمي على رأس القرن الخامس عشر الهجري، فأسهمت المجلة من جهتها في توعية الشباب المغربي بحقيقة المنهاج الإسلامي في التربية والتغيير، وبما يجري في الواقع المحلي والدولي من حوله، وحثه على التحرك المتزن والرفيق والاستراتيجي لنصرة الإسلام ونصرة قضايا المسلمين والمضطهدين في العالم.
وكان ممن تعرف على الأستاذ من خلال المجلة الأستاذ العلامة محمد عبادي الأمين العام الحالي لجماعة العدل والإحسان، وأحد مؤسسيها في شتنبر من سنة 1981م، والأستاذ العلامة عبد اللطيف بن عبد الغني جسُّوس رحمه الله (ت2019م) أحد كبار علماء طنجة وتطوان، من مؤلفاته “أزمة أمانة” و”وظيفة العلماء” و”الإسلام والأحزاب السياسية” وأحد كتاب مجلة الجماعة 1.
فالأول كان قد اطلع على كتاب “الإسلام بين الدعوة والدولة” 2 وانقطعت الأخبار بسبب اعتقال صاحبه واتهامه بالجنون من جديد بعدما اتُّهم بالجنون عندما دخل الزاوية، ولكن ما إن عثر -عبادي- على العدد الأول من المجلة وكان يومذاك مُتدربا بمركز تكوين الأساتذة بمدينة آسفي، حتى شد الرحال نهاية الأسبوع إلى مدينة مراكش لزيارة مدير المجلة (عبد السلام ياسين) وهو لا يلتفت إلى تخويف الناس له من زيارة “رجل مراقب” وقريب عهد بالسجن، وبيته محروس، وفي الزيارة وجد الرجل “سلوكه بسيط ومواقفه كبيرة” 3، حدث هذا قبل أن يكتب رسالة يعلن فيها استعداده للعمل الجماعي نصرة للإسلام، وقد نُشرت الرسالة في العدد الرابع من المجلة 4.
والمثير في الرسالة الكلمات التي قدم بها الأستاذ عبد السلام ياسين تلك الرسالة، وهي قوله: “كان زارنا مرتين الأخ المؤمن محمد عبادي، وله ماض وحاضر ومستقبل إن شاء الله في عمارة المسجد بالوعظ وتعزيز صف الدعوة إلى الله” 5. وكذلك كان؛ له “ماض” في تلقي العلوم الإسلامية عن ثلة من كبار العلماء بهمة في الطلب عالية، فضلا عن تخرجه من جامعة القرويين، وله “حاضر” وهو من المؤسسين للجماعة ومن أبرز قادتها، وله “مستقبل”، وها هو اليوم هو الأمين العام للجماعة، يُشهد له بالعلم والربانية.
أما الثاني فقد خط رسالته بطنجة يوم 16 محرم 1400ه، بُعيد اطلاعه على المجلة وتلمسه معاني الصدق في مضمونها، فأبدى من خلال مضمون الرسالة تأييده لعمل الأستاذ ولمنهجه في الدعوة، ومما جاء فيها:
“حضرة فضيلة الأستاذ العلامة: السيد عبد السلام ياسين، حفظه الله آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فإن وقوفكم مع الحق وتدعيمكم للوحدة الإسلامية وحرصكم على إبرازها في كل ركن من أركان الدين، ودعوتكم الصريحة النافذة إلى القلوب بالرجوع إلى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة على صاحبها أزكى السلام جعل أنظار المسلمين في هذا الوطن تتجه إليكم لتنقذوها مما تتخبط فيه من مآس ومصائب الجاهلية الثانية، وتعيدوها نور الإسلام قولا وتنفيذا، حتى تنبثق جميع تصوراتنا، وأنظمتنا، وقيمنا، وموازيننا من المنهاج الإسلامي، وطبعا (…) إننا معكم يا فضيلة العالم العامل بعلمه نشُد عضدكم ونسير معكم في دروب الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى. والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله (…) والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته” 6. (انظر نص الرسالة في الملاحق).
وقد كانت مضامين المجلة سببا لتوبة كثير من الشباب وتعميق تدينهم، وحمايتهم من الاستجابة لدعوات التطرف العنيف التي كانت تحيط بهم من كل جانب.
ولا يفوتني التذكير هنا بأن أربعة أعداد من المجلة (8-9-10-11) جُمعت في كتاب يُعد من أهم كتب الأستاذ وأشهرها، وهو كتاب “المنهاج النبوي، تربية وتنظيما وزحفا” 7، الذي صدرت أولى طبعاته سنة 1982م، أي قبل اعتقاله الثاني بسنة واحدة. وقد انتشرت المجلة في المغرب، وإن نجت أعداد قليلة فقط منها من المصادرة والحجز. والمصير نفسه كان لجريدتي الصبح 8 والخطاب 9: المصادرة والمنع.
ومع ذلك، فمما يثير الانتباه في شخصية الرجل وكأنه يصنع حريته بنفسه، إذ لا يتوقف عن اكتشاف الطرائق التي يحيا بها ويتواصل بها مع الناس، فما أن يُغلَق بابٌ في وجهه حتى تجده يطرق غيره، من غير ملل ولا يأس. بل لا يلتمس لنفسه العذر في القعود والاكتفاء برخصة “أضعف الإيمان”؛ أي إنكار المنكر بالقلب فقط، بل يأخذ بالعزيمة ويدفع القدَر بالقدَر، فيجتهد ويعتبر ويستبصر، ويتجاوز وضعه إلى غيره، (انظر رسالة الأستاذ إلى وزير الإعلام والشبيبة والرياضة في فصل الملاحق)، ولا يزال كذلك حتى أضحى الرجل المتفرد حديث الغادي والرائح، وحتى بلغت دعوته الآفاق، وآمن بها جمع غفير ممن وجدوا فيه أنموذجا للعالم المؤتمن على أمانة العلم والشهادة بالقسط.
[2] ياسين، عبد السلام. الإسلام بين الدعوة والدولة، مرجع سابق.
[3] شريط فيديو بعنوان “سيرة الرجال”، مسجل بتاريخ (6 غشت 2004) ومنشور في قناة عبد السلام ياسين الإلكترونية على يوتوب، يوم 10 نونبر 2017م، وشوهد في 7 ماي 2020م، ابتداء من الدقيقة الستين.
[4] عبادي، محمد. رسالة إلى الأستاذ عبد السلام ياسين، مجلة الجماعة، مطبعة الساحل، الرباط، عدد 4، السنة 1، ط1، 1399ه/1979م، ص 70-72.
[5] المرجع نفسه، ص 70.
[6] جسُّوس، عبد اللطيف. “رسالة إلى الأستاذ عبد السلام ياسين”، مجلة الجماعة، العدد 4، مرجع سابق، ص 117-118.
[7] ياسين، عبد السلام. المنهاج النبوي، تربية وتنظيما وزحفا، الشركة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1989م.
[8] صدر العدد الأول من جريدة الصبح في فاتح شهر صفر 1404ه/نونبر 1983م، عن دار الطباعة الحديثة بالدار البيضاء، وصدر منها العدد الثاني في نفس الشهر، لكن تمت مصادرته ومُنعت الجريدة نهائيا. (انظر نسخة من جريدة الصبح في موقع سراج (siraj.net)).
[9] صدرت جريدة الخطاب بعد شهر ونصف من صدور جريدة الصبح، منتصف شهر ربيع الأول 1404ه/أواخر دجنبر 1983م، عن دار الطباعة الحديثة بالدار البيضاء، حيث كان الأستاذ في السجن، وتمت مصادرتها واعتقال عدد كبير من أعضاء الجماعة، والحكم عليهم بأحكام تراوحت بين ثلاثة أشهر وخمس سنوات سجنا نافذا. (انظر نسخة من جريدة الخطاب في موقع سراج (siraj.net)).