الفصل الثاني: (1983-1985) في سجن “لعلو” الرهيب: من جحيم المعاناة إلى صناعة الحرية
سنرى في هذا الفصل كيف تحول السِّجن من قبوٍ لتذويب كرامة الإنسان وترذيل خُلقه وتسفيه عقله، إلى فضاء للتحرّر وصناعة الحرية وسط ركام من الاستعباد المقيت والاستبلاد المميت. فذوو الهمم المترهلة سرعان ما يسرق منهم السجن أحلامهم ويُنسيهم أفكارهم، ويُرديهم كُتلا تعيسة لا تَصلح لشيء.
انتقل الأستاذ من مدينة مراكش إلى مدينة سلا صيف 1980م، حيث القرب من العاصمة السياسية ومن تمركز أغلب المثقفين والسياسيين، واستأنف أنشطته الدعوية والفكرية والثقافية. ويحدث في بداية القرن الخامس عشر الهجري (1402ه-1981م) أن وجَّه الملك الحسن الثاني رسالة خاصة إلى قادة العالم الإسلامي وعلمائه، سمَّاها بـ “رسالة القرن” 1، ابتدأها بقوله: “الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله. من عبد الله المعتمد على الله المتوكل عليه في سره ونجواه أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين. أعز الله أمره، ورفع قدره، وخلد في الصالحات ذكره إلى أبنائه المغاربة خصوصا، وإخوانهم المسلمين في جميع أقطار الأرض عموما” 2، ودعا فيها المسلمين إلى الوحدة والعدل والإحسان والشورى والنصيحة والإصلاح والتجديد، وذمَّ فيها الطبقية والعنصرية والفرقة، وأصَّل للدعوة الإسلامية من القرآن والسنة، كما دعا إلى فسح المجال لرجال الدعوة الإسلامية لتتجدد رسالة الإسلام، حيث قال: “فمن واجب القادة المسؤولين والزعماء البارزين في العالم الإسلامي أن يفتحوا الطريق أمام القائمين بالبعث الإسلامي والدعوة الإسلامية، وأن يشملوهم بالرعاية الكافية، حتى يؤدوا رسالتهم أحسن أداء” 3، وكتبت الرسالة كلها بنفس ديني تبشيري من أولها إلى آخرها وكأنها خطبة جمعة مرتبة بدقة، على غير العادة في الخطب الملكية.
ولا ننسى أن الملك أعد رسالته في ظرفٍ خاص جدا وهو نجاح الثورة الإيرانية ومحاولات تصدير الثورة إلى العالم الإسلامي، ومنه المغرب الذي تأثر كثير من شبابه بصدى الثورة، ولا يبعد أن يكون كتبها لاعتلاء موجة “الصحوة الإسلامية” وسحب البساط من قيادات مزاحمة أو معارضة، وحتى لا يتكرر سيناريو نجاح الثورة التي أبهرت الكثير من العلماء والمثقفين والشباب في العالم، بل وأبهرت الفلاسفة أيضا 4
وفي السياق نفسه عرف المغرب سنة 1981م احتجاجات شعبية عارمة بمدينة الدار البيضاء نتيجة إعلان الدولة قرار الزيادة في أسعار بعض المواد الأساسية تحت ضغط المؤسسات المالية الدولية المتحكمة، وُوجهت بالعنف الأعمى فوقعت “مجزرة” في مدينة الدار البيضاء يوم 20 يونيو 1981م، سقط على إثرها عشرات الشهداء سماهم الشعب “شهداء الكرامة” وسماهم وزير الداخلية آنذاك ادريس البصري ساخرا بـ “شهداء كوميرا” 5. وبخصوص عدد الشهداء فقد أحصت منهم هيئة الإنصاف والمصالحة 114 6 قتيلا، بينما بلغ العدد بحسب تقرير الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، إلى 600 قتيل و5000 جريح، ورجحت جمعيات حقوقية مغربية أخرى أن يكون عدد الضحايا أكثر من 1000 قتيل. كما أن أغلب ضحايا أحداث 1981 دفنوا في مقابر جماعية سرية ومجهولة، بعضها في ثكنات عسكرية تابعة لرجال المطافئ بـ”الحي المحمدي”، بالإضافة إلى حملات الاعتقالات الواسعة في صفوف أحزاب المعارضة ونقابتي الاتحاد المغربي للشغل والكونفدرالية الديموقراطية للشغل، والمشتبه في مشاركتهم في الاحتجاجات، حيث اعتقل ما يزيد على 26 ألف معتقل، 7 ومئات السنوات من السجن.
فكان عدد شهداء “كوميرا” آنذاك أكثر بكثير من عدد شهداء “كورونا” الآن…
ولا يزال الجلادون في أمان من المحاسبة والعقاب، بل تمت ترقيتهم إلى مناصب أكثر خطورة من مواقعهم السابقة في السلطة، وتمت مكافأتهم على فِعالهم الشنيعة بحصانة صلبة، ولا تزال الضمانات الحقيقية غائبة إلى اليوم لعدم تكرار مثل ذلك العنف الأسود الذي مورس على شعب أعزل، فقد يتكرر مثله أو أفظع منه في أية لحظة…
وأرقى ما سمحت به السلطة هو زيارة المقبرة والترحم على الموتى!
كان الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في المغرب مهترئا، وكان موقف فقهائنا تنويميا لا ينكر منكرا ولا يجهر بحق، لكن الأجواء الدولية كانت تشجع ارتفاع الوعي بالواقع عند الشباب، وتحفزهم على التفكير الجدي والتعبئة الفكرية من أجل التغيير، لأن الوضع الاجتماعي مسؤولية بشرية وليس قدرا إلهيا 8، وكان جواب السلطة واحدا لا يتغير ولا يتجدد؛ هو القتل أو السجن، وكانت غالبا ما تبدأ بتصفية القيادات الميدانية، حيث أخوف ما يخافه الحكام من شعوبهم تاريخيا هو ظهور شخصيات معارضة لها كاريزما حقيقية، يلتف الشعب حولها، ويردد قولها ويقتنع بموقفها اليوم لينفذ أمرها غدا.
انبرى عبد السلام ياسين من جديد، للردِّ على الملك برسالة تحليلية نقدية، تحت عنوان “رسالة القرن الملكية في ميزان الإسلام” 9، في يونيو 1982م، نشرها في افتتاحية العدد العاشر من مجلة الجماعة، قبل أن تطبع مستقلة فيما بعد في 44 صفحة.
وماذا سيكون رد فعل السلطة حيال شخص يعي مسؤوليته في نشر الوعي النقدي تجاه الوضع الذي يعيشه الناس، ويتوجه بالنقد إلى خطاب الملك مباشرة ويصفه بالازدواجية؟ وخاصة إذا كان الناقد مقتدرا ويعي قيمة الفكرة ومآلها وعلاقتها بالواقع في مخاضاته، وكانت “شخصية الرجل شخصية فريدة، تفرض نفسها على الآخر” 10، ومن هذا الذي يجرؤ على مناقشة الملك في مضامين رسالته؟ ومن ذا الذي يراجعه جهرا في صحة الدعوى وحقيقة القول؟ ومن يحاكم الأقوال الجميلة في الخُطب إلى الأفعال القبيحة في الواقع؟ وبصفة خاصة من يُسهم في نشر الوعي النقدي المسؤول في تفكير الشباب، إذ “ما يهم في أيّ فكر هو طريقته في إيقاظ الوعي من أجل ممارسة النقد” 11، كما يقول عبد الكبير الخطيبي (ت2009م)؟
[2] المرجع نفسه.
[3] المرجع نفسه.
[4]
أذكر مما أذكره انبهار الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو بالثورة الإيرانية وبزعيمها الخميني، معتبرا أنها ثورة نموذجية على الطغيان والأوتوقراطية، و”نظام التحديث الزائف” الذي كان يدعيه الملك الشاه، وكتب عنها بين سنتي 1978 و1979 عدة مقالات وأجرى مجموعة حوارات. وجميع مقالاته في الموضوع منشورة ضمن كتابه:
Foucault, Michel. “Dits et Ecrits”, Bibliothèque des Sciences humaines, Gallimard, Paris, (Tome 4), 1994.
[5] “كوميرا” تعني الخبز باللسان الدارج، وفي الأصل تعني الخبز باللغة الإسبانية، وتسمية “شهداء كوميرا” جاءت من كون الاحتجاجات ضد الزيادة في سعر الخبز (الكومير).
[6] هيئة حكومية عينها الملك محمد السادس في 7 يناير 2004م لتسوية ملف ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان فيما سمي بسنوات الجمر والرصاص.
[7] احتجاجات 1981م بالمغرب.. “شهداء الكوميرا”، موقع الجزيرة (www.aljazeera.net)، منشور يوم 11 شتنبر 2016م، وشوهد في 5 يونيو 2020م.
[8] أرندت، حنا. في الثورة، ترجمة عبد الوهاب عطا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2008م، ص 86.
[9] ياسين، عبد السلام. رسالة القرن الملكية في ميزان الإسلام، د. مطبعة، سلا، ط1، 1982م، منشورة ضمن مجموع رسائل الأستاذ في موسوعة مؤلفاته (siraj.net).
[10] زكي، مبارك. حوار الكاتب مع السيد زكي مبارك رحمه الله في بيته.
[11] Khatibi, Abdelkébir. Le scribe et son ombre, Éditions de La Différence, Paris, 2008, p 61