ملك جديد ومفاوضات جديدة..
بعد تولي الملك محمد السادس الحكم قاد الناطق باسم القصر الملكي آنذاك حسن أوريد، مفاوضات جديدة مع بعض قياديي الجماعة عبر وساطة الرئيس السابق للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان الأستاذ أحمد حرزني، وتمَّ اللقاء لمرة واحدة ولم يتكرر بسبب تمسك قيادة الجماعة بمواقفها، وتمسك أوريد بأوامر الملك. حيث طالب محاوِرو الجماعة التفاوض عن ملف الجماعة في كُليته، وضِمنه إطلاق سراح المعتقلين والاعتراف بالوجود القانوني للجماعة ثم رفع الحصار عن الأستاذ، لكن أوريد لم تكن لديه صلاحيات التفاوض عن باقي الملفات، فانتهت تلك المفاوضات في حينها، فاشلة كأخواتها. 1
وكرر الأستاذ عبد الصمد بلكبير زيارته الثالثة للإمام محاولا إقناعه بأن المغرب سيعرف انتقالا حقيقيا مع الملك الجديد سيقطع مع مرحلة حكم الحسن الثاني، وأن الملك في حاجة ماسة إلى جماعة العدل والإحسان لإنجاز هذا الانتقال، فـ”الانتقال فيه معضلات أخطرها أن الحرس القديم الذي لا ينسحب بسهولة والملك لا يستطيع أن يرفع رجله عن الحرس القديم إذا لم يجد من يدعم انتقاله، وليس في المغرب من يستطيع أن يدعم انتقاله غير العدل والإحسان لأنه الأكثر شعبية ومصداقية” 2، غير أن فطنة الأستاذ وسابق رشده، وما خبره عن دهاليز سياسة الملك في مخزنة النخب السياسية والدينية والثقافية، جعلته يقابل وساطة محاوره بابتسامة ترفض العرض دون أن تجرح العارض.
Mémorandum à qui de droit
وبينما لا يزال الحصار مضروبا على بيت ياسين، وقد استكمل سنته العاشرة، مات الملك رحمه الله، وبقي النظام بثقله، تولى مكانه سلطان جديد بطريقة قديمة مع “سِحْر العربة التليدة والأحصنة ذات الحوافر الـمُذَهَّبة” 3، و”مدَّ يده للتقبيل” 4، واستأنف التقليد، واستمرت الأمثولة في لازمنيتها، ورغم ذلك حاولت الآلة الدعائية المخزنية أن تسوق وهما غير ممكن تحقيقه، ووعدا يستحيل إنجازه، وهو بروز عهد جديد يتراءى في الأفق يقطع مع الماضي ويؤسس لحياة سياسية عصرية، عنوانها دولة الحق والقانون والحريات، يُكرَّم فيها المواطن ويتمتع بجميع حقوقه التي يضمنها له الدستور… الممنوح طبعا.
الجميع يتساءل عن استراتيجية البلد في أفق القرن الجديد؛ القرن الواحد والعشرين، “أي مستقبل ينتظر العرب؟” في زمن تمت عولمته بإحكام؟ في إطار استعمار شمولي جديد بلغة المنجرة رحمه الله 5، استعمارا يزيد العالم المستضعف شتاتا وتبعية. وفي المغرب شعارات جميلة.
لكن، في الواقع التنموي والحقوقي لا جديد.
وبقيت تركة الحسن الثاني هي المتحكمة في الوضع، وبقي وضع الحصار على ما هو عليه (حصار الرجل وحصار الجماعة)، فكتب الأستاذ رسالة/نصيحة جديدة إلى الملك الجديد، وهي آخر مكتوباته رحمه الله، في نونبر من سنة 1999م، بعنوان “Mémorandum à qui de droit” (مذكرة إلى من يهمه الأمر) 6، تم توزيعها في حفل الذكرى العاشرة لفرض الحصار يوم الجمعة 28 يناير 2000م، ووجهت نسخة منها إلى الديوان الملكي.
مذكرةٌ بما سبق..
مذكرةٌ من اسمها تفيد فعل التذكير بما سبق في المضامين العامة لرسالة 1974م، فنفس الروح تسري فيهما، مع نفس الموقف النقدي الواضح والمسؤول، بلا نفاق ولا تزوير للحقيقة ولا تغطية للواقع كما فعل ويفعل المداهنون والطامعون وكهنة المعبد، ومن لا خلاق لهم باختصار. فـ”المذكرة احتوت من الشجاعة، والصدق والصراحة، والحرقة على مصالح الأمة، ما جعلها في حصن منيع من افتراءات الكاذبين، ومكر المنافقين، وتخرصات المذبذبين” 7، إذ عرض فيها عرضا شاملا الوضع المغربي في حقيقته وبالأرقام، كما اقترح حلولا رآها جذرية من أجل إصلاحٍ شامل يلامس جوهر الواقع، ولم يكتف بالكلام العام الذي لا يدين أحدا، بل اعتبر أن “حاجة الأغلبية الصامتة لا يمكن أن يلبيها إلا تغيير جذري يستأصل شأفة التهميش الاجتماعي، والفقر المدقع، والركود الاقتصادي” 8، إذ الفقر صناعة سياسية وفعل اجتماعي وليس ظاهرة طبيعية 9.
وذاع خبر الرسالة الجديدة، بل أصبح الخبر الغالب في وقته بالمغرب، وتداولتها الصحافة بأنواعها، بالشرح والنقد والتعليق، وتداولها المغاربة من يد إلى يد كسابقتها… وصودرت بعض الجرائد بسبب نشرها للنص الكامل للمذكرة على صفحاتها، منها جريدة “المستقل” و”لوكوتديان” و”لوروبرتير”، وخصصت الوزارة المسؤولة عن الشأن الديني بالمغرب العدد 910 من جريدة “ميثاق الرابطة” للرد على المذكرة.
باختصار، يمكن القول بأن المذكرة جاءت لتؤكد نفس الموقف من النظام لا من الشخص، ولتُوقف الإفراط في التفاؤل الذي صنعته الدعاية الرسمية، ولتطرح السؤال الكبير: هل يستطيع صاحب لقب “ملك الفقراء” كما روجت الصحافة الانتصار للفقراء وتغيير الوضع حقا؟ وهل النخبة المحيطة به مستعدة للتعاون معه إن كانت الإرادة صادقة؟ أم أنها مجرد “ثعالب عجوزة” كما سماها صاحب المذكرة؟ وهل سنرى للوعود إنجازات أم “سيرحل الشعر المحلق” فنجد التعزيمات الإعلامية مجرد تمويه؟
يقول الأستاذ: “جميلة تلك الوعود المنثورة على الرؤوس بسخاء، لكن ما أبشع الخيبة حين تستفيق الشبيبة بعد حين من الأماني المعسولة على مرارة الواقع التعس! فبعد الاستعراضات والاحتفالات، سيرحل الشعر المحلق في الأجواء لِيَحل محله النثر المثقل بالبطالة والبؤس” 10، وستنتهي ترانيم سدنة العهد القديم، وتتوارى أناشيد الضحالة السياسية للمجامِلين، وتُغلب الإشارات الجزئية السطحية أمام ثقل التقاليد البالية.
[2] بلكبير، عبد الصمد. حوار في جريدة العمق (al3omk.com)، بعنوان “بلكبير في حوار مثير مع الشيخ ياسين: الملك حاصرك ليحميك”، منشور بتاريخ 13 دجنبر 2015م، وشوهد في 23 ماي 2020م.
[3] ياسين، عبد السلام. مذكرة إلى من يهمه الأمر، مرجع سابق، ص 3.
[4] العروي، عبد الله. ذكريات الصباح (يوميات 1967-2007)، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء، ط1، 2017م، ص 693.
[5] المنجرة، المهدي. زمن الذلقراطية، مرجع سابق، ص 14.
[6] انظر: الرسالة ضمن مجموع رسائل الإمام في موقع سراج (siraj.net)، وقدر ترجمت إلى اللغات: العربية والإنجليزية والإسبانية والألمانية.
[7] جسوس، عبد اللطيف. حوار في جريدة رسالة الفتوة، حاوره نور الدين اجوهرتن، عدد 17، بتاريخ 03 ماي 2000م، والحوار منشور أيضا بموقع (aljamaa.net)، يوم 29 دجنبر 2001م، وشوهد في 5 ماي 2020م.
[8] ياسين، عبد السلام. مذكرة إلى من يهمه الأمر، مرجع سابق، ص 26.
[9] دونللي، جاك. حقوق الإنسان العالمية بين النظرية والتطبيق، ترجمة مبارك علي عثمان، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، ط1، 1998م، ص 242.
[10] ياسين، عبد السلام. مذكرة إلى من يهمه الأمر، مرجع سابق، ص 4.