جلستْ أمام بيتها الذي أضحى خرابا تتأمّل وتتألّم… فقد هُدّم السَّكَن، وتحت ترابه دُفن السَّكْن. وتسيل ذكريات لا حصر لها من ميزاب القلب… ويسيل معها شلاّل ممّا صاحبها من مشاعر السعادة والحزن… اللذة والألم. الضحك والبكاء… البغض والحبّ.
ها هي ذي جالسة أمام أكوام الحجر والأتربة، تتجرّع مرارة فقد الأحبّة.
إيــــــــه…. أين الزوج والأولاد… أين الكنّات والأحفاد… وأين جارات طيبات كنّ بلا أعداد.
تبكيهم –جميعا- وحدها دون بواكٍ… وتشكو إلى الله بثّها وحزنها، آملة أن يعود يوسفها وينبعث من تحت الركام. أيّا من كان.
جلستْ والدمع يهطل من عينيها… تتأمّل فنجانها المقلوب… وبيتها المقلوب… وأثاثها المقلوب… وحيّها المقلوب… ووطنها المسلوب… تقول يا الله… يا مقلّب القلوب… ثبت قلبي حتى أكون راضية بقضائك، صابرة على بلائك، شاكرة لنعمائك، شوكة في حلق أعدائك.
وبينما هي كذلك… امتدّت يدها المرتعشة إلى التراب فأخذت منه حفنة رفعتها إلى أنفها تشمّها وتقول: الله… يا الله… رائحة أرضي مسك أذفر… رائحة فلسطين ريحان وعنبر.
ثمّ شمّت الحفنة مرّة بعد مرّة وهي تقول: الله… هذا أريج ابني عماد… هذا عبير ابني يحيى… وهذا شذا شيخي أحمد…
الله… هذا عرف ابنتي شيرين… هذه فغوة صغيري محمّد… وهذه رَيّا روح الروح.
الله… الله… الله… وذا طيب القدس وغالية الأقصى…
وفجأة قامت كالبركان- متحدّية عجزها وألمها- وصاحت بأعلى صوتها، مرسلة حممها الحارقة:
“وعهد الله لن نخون… فلسطين في العيون.
نحن الطوفان… نحن السيل الجارف… نحن الفيضان… نحن أجلكم والله المستعان.
اسمعوني يا حثالة… اسمعوني يا خنانيص… حتى لو أبدتمونا بالكامل… وجعلتم ديارنا ركاما واحدا… ودككتم فوقنا الأرض دكّا… فسيخرج لنا من تحت الأنقاض نسل يسومكم سوء العذاب… فنحن شعب لا يباد.
ألا تذكرون… كم من محاولات حاولتم… كم من تهديدات جرّبتم… كم من مساومات قدّمتم… كم من أموال طائلة أنفقتم… ثمّ أضحى كلّ ذلك اليوم عليكم حسرة، ثمّ ستغلبون.
وعهد الله لن نخون… كنّا وكنتم… واليوم صرنا وصرتم…
سنخلد وستبادون… سنحيا وستموتون… سيُترحّمُ علينا، و-أبد الدهر- ستُلعنون.
لو كنتم رجالا لحاربتم كما يحارب الرجال… ولقبلتم على الأرض النزال… لكنكم أشباه رجال ولا رجال… جبناء… تستقوون على النساء، وتتنمّرون على الرضّع، وتستأسدون على المباني.
نحن لا نموت ولا نباد… إما أن نعيش كراما، وإلا فدماؤنا للأرض سماد… إمّا نصر مؤزّر أو استشهاد… إما أن نكون لله عبادا وإمّا أن نلقى ربّ العباد.
انقضى عهدكم يا أرذال… وحان أوان الرجال… فقد ولدت غزّة موساها، فليستعدّ فرعون اللّعين وهامانه للغرق، وليتهيّأ قارونه الخسيس للخسف.
فقد وَعدَ ربّنا عزّ وجل، و وعدُهُ حقّ: وَعَدَ اَ۬للَّهُ اُ۬لذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ اُ۬لصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِے اِ۬لَارْضِ كَمَا اَ۪سْتَخْلَفَ اَ۬لذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اُ۬لذِے اِ۪رْتَض۪يٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمُۥٓ أَمْناٗۖ يَعْبُدُونَنِے لَا يُشْرِكُونَ بِے شَيْـٔاٗۖ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لْفَٰسِقُونَۖ (53) وَأَقِيمُواْ اُ۬لصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ اُ۬لزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ اُ۬لرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَۖ (54) لَا تَحْسِبَنَّ اَ۬لذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِے اِ۬لَارْضِۖ وَمَأْو۪يٰهُمُ اُ۬لنَّارُۖ وَلَبِيسَ اَ۬لْمَصِيرُۖ [سورة النور- الآية: 53-55]
و وَعدَ سيدُنا رسول الله ﷺ و وعدُهُ صدق: “لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تُقاتِلُوا اليَهُودَ، حتَّى يَقُولَ الحَجَرُ وراءَهُ اليَهُودِيُّ: يا مُسْلِمُ، هذا يَهُودِيٌّ وَرائي فاقْتُلْهُ” 1.