صَفَرُ الخير: من غزوة الأبْواء إلـى دعاء القنوت

Cover Image for صَفَرُ الخير: من غزوة الأبْواء إلـى دعاء القنوت
نشر بتاريخ

غزوة الأبْواء / وُدان

بعد استكمال إجراءات إرساء دعامات النظام والأمن بمستوييه المدنـي والروحـي خلال السنة الأولـى بعد الهجرة؛ حيث أقيم المسجد وتمت المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين ووضع الميثاق المنظم للعلاقات بين مكونات المدينة: مسلمين ويهود ومشركين، واستتب الاستقرار، وأضحـى المسلمون رقما فاعلا ومعتبرا، دُشنت مرحلة جديدة لإعلان المسلمين قوة يجب أخذها بعين الاعتبار، ابتداءً من السنة الثانية للهجرة، وتحديدا فـي شهر صفر، حيث قاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولـى الغزوات فـي مسعـى لاعتراض قافلة قرشية، بمنطقة الأبواء أو ودان، فحدث أن أفلتت القافلة، ووجد المسلمون أنفسهم أمام قبيلة بنـي ضمرة التـي عقدوا معها عهدا بعدم الاعتداء، ليعودوا إلـى المدينة بعد رحلة غطت الأسبوعين.

واعتبارا لكونها أول غزوة يغزوها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جاءت حافلة بالدروس والدلالات، ومنها:

1. حرصه صلى الله عليه وسلم علـى قيادة الغزوة تفاديا لأي سوء تقدير، فالمسلمون طارئون فـي المنطقة.

2. خروجه صلى الله عليه وسلم في مجموعة من المهاجرين تطبيقا لمقتضيات بيعة الرضوان القاضية بحماية الأنصار عن رسول الله ونصرته فـي المدينة، لا خارجها.

3. السعـي لاعتراض القافلة رسالة للقبائل وقريش تحديدا أن المسلمين أضحوا قوة يجب اعتبارها.

4. اختيار منطقة الأبواء غير بعيدة عن المدينة إلا بحوالي 23 ميلا يتناسب والأهداف من الغزوة، يعضد ذلك عدد المشاركين الذي لم يتجاوز 60 رجلا.

5. تدريبا علـى تدابير الغزو، استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم سعداً بن عبادة رضـي الله عنه على المدينة المنورة، وأسند صلى الله عليه وسلم لواء الغزوة (القيادة الميدانية) لحمزة بن عبد المطلب رضـي الله عنه.

وعيا بقيمة التحالفات، وسعيا لتقويض نفوذ قريش بين القبائل، لم يُفوِّتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم الفرصة لعقد تحالف بعدم العدوان مع قبيلة بنـي ضمرة ذات الموقع الاستراتيجـي بين مكة والمدينة، “فلا يغزو المسلمون بنـي ضمرة، ولا يغزو بنو ضمرة المسلمين، وأن لا يكثروا علي المسلمين جمعًا ولا يعينوا عليهم عدوا”.

التحالف صيغةً ومخرجاتٍ نموذج لما يجب أن تكون عليه المعاهدات حفظا للعزة وصونا للحقوق: “هذا كتاب محـمد رسول الله (أقول صلى الله عليه وسلم) لبنـي ضمرة بأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأن لهم النصـر على من رامهم بسوء، بشرط أن يحاربوا فـي دين الله، ما بَلَّ بحرٌ صُوفَةً (عبارة تفيد الاستدامة كقولنا: ما دام الليل والنار)، وأن النبـي (أقول صلى الله عليه وسلم) إذا دعاهم لنصـر أجابوه، عليهم بذلك ذمة الله ورسوله”.

الغزوة وما تبعها من سرايا تدريبٌ ميدانـيّ لصدام عسكري محتوم ضد قريش، باعتبارها العدو التاريخـي للإسلام، لذلك كان اكتشاف المحيط والطرقات، بل والتدرب علـى التحرك فـي هذا المحيط فيما يشبه المناورات العسكرية بلغة العصر، مطلبا ضروريا.

لقد أكدت غزوة الأبواء (ودان) امتلاك المسلمين فـي شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم مقومات القيادة، إن فـي بعدها التخطيطـي فجاءت قاصدة غير مكلفة، وإن فـي بعدها التدبيري فلم يبرح صلى الله عليه وسلم المدينة قبل أن يستخلف عليها من يدير أمورها، وإن فـي بعدها التدريبـي فأعطـى شارة القيادة واللواء أحد كبار الصحابة كفاءة وتضحية، وإن فـي بعدها الاستراتيجـي فسارع للتحالف مع قبيلة ذات موقع استراتيجـي بين المدينة ومكة، وإن كان قربها من المدينة يجعلها أكثر خطورة علـى المسلمين فـي حال انخراطها فـي عدوان ضد المسلمين، وهو ما لم يكن ليغيب عنه صلـى الله عليه وسلم.

صفر شهر القنوت

فـي شهر صفر من السنة الرابعة للهجرة، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفدا من خيرة المسلمين قوامه سبعون رجلا من القراء ليبلغوا الإسلام إلى قبائل نجد، تلبية لطلب أبـي براء عامر بن مالك؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تخوف من غدر أهل نجد، وما أغنـى حذر من قدر، إذ سرعان ما دارت دوائر المكر والخيانة، فاقتنصت فتية الدعوة، ولم ينج منهم إلا كعبا بن زيد بن النجار.

سبعون رجلا من خيرة أطر الدعوة أبادهم غدر الكفر وحقد صناديده على الإسلام والمسلمين، فاهتز لهذا المُصاب الجلل كيانه صلى الله عليه وسلم، وحزن حزنا غير مسبوق، روى ابن سعد عن أنس رضـي الله عنه: “ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وَجَدَ علـى أحد ما وجَد علـى أصحاب بئر معونة”، فقد جاءت مجزرة بئر معونة فـي فترة حرجة عنوانها الكبير: إعادة بناء الذات ورص الجبهة الداخلية بعد تمحيص غزوة أحد.

فـي هذه الأجواء العصيبة، فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم جبهة جديدة يستمطر من خلالها نصر الله وتأييده؛ إنها جبهة الدعاء، فراح صلى الله عليه وسلم يقنُت شهرا كاملا، ويدعو على المشركين المعتدين الغادرين الذين استباحوا دماء فتية الدعوة. فـي الصحيح عن أنس قال: “دعا النبـي صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوا أصحابه ببئر معونة ثلاثين صباحا، يدعو في صلاة الفجر على رعل وذكوان ولحيان وعصية – المتورطين فـي المجزرة – ويقول: عصية عصت الله ورسوله…”

لجأ صلى الله عليه وسلم إلـى الدعاء على المعتديـن مستعصما بباب المنتقم الجبار ليعلم صحابته والمسلمين كيفية التعامل مع النكبات والظروف العصيبة مفوضين الأمر لله تعالـى. أخرج أبو داود وأحمد عن ابن عباس رضـي الله عنهما قال: “قَنَتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا متتابعا فـي الظهر والعصـر والمغرب والعشاء والصبح فـي دُبر كل صلاة إذا قال: سمع الله لمن حمده من الركعة الآخرة يدعو على قبائل، على حـي من بنـي سلم، على رعل وذكوان وعصية ويؤمن من خلفه”.

واليوم وغزة العزة تعانـي ما تعاني من كروب غير مسبوقة وحشيةَ عدو وخذلان إخوة الدين والعروبة، يُلجأ من باب القنوت إلـى الملك الجبار استمطارا للنصر ورفعا للمحن التـي من أهوالها تشيب الوالدان؛ يُلجأ فـي مثل هذه الأحوال العصيبة بالدعاء علـى المعتدين كيانا ومتورطين فـي هذا العدوان الغاشم، فيُذكرون بالأسماء والصفات والمهام كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم فـي دعاء قنوته بعد مجزرة بئر معونة فـي شهـر صفر من السنة الرابعة للهجرة.

وللقنوت كما لعموم الأدعية صيغ كثيرة، ومن جوامع دعاء القنوت: “اللهم رَبَّ السماوات السبع وما أظلت، ورَبَّ الأرضين وما أقلت، ورَبَّ الشياطين وما أضلت، كن لنا جارا من شـر خلقك كلهم جميعا أن يفرط علينا أحد منهم أو أن يبغـي علينا، عزَّ جارُك وجلَّ ثناؤك ولا إله غيرك. اللهم إنا نعوذُ بك من شـر (فلان وفلان وفلان بذكـر الأسماء) وملئِه وجنده وأشياعه من الجن والإنس والشياطين، ومن دونهم ومن وراءهم، اللهم إنا نجعلك فـي نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم”.

والحمد لله رب العالمين.