“علم التجهيل” أو حين يتحول العمل الجمعوي إلى عائق أمام التغيير
إن تراكم العلوم والمعارف وتداخل مجالات الفكر والاجتماع والسياسية بتقاطعاتها الكثيفة، وما أثله العلماء والمفكرون والباحثون في مجالات شتى، عبر مسار زمني مهم، كل ذلك لن يكون ذا أثر يُذكر ما لم يتم ربطه برؤية نهضوية، تستشرف المستقبل وتسعى إلى التغيير. إن هذه الثروة المعرفية، من دون تأطير ضمن مشروع حضاري ناهض، قد تصبح عبئا معرفيا لا يزيدنا إلا تيها وضبابية، وعجزا غير مبرر، عن صناعة التاريخ وبناء المستقبل.
لذلك، أظن جازما أن الأزمة المعرفية التي يعيشها حقل العمل الجمعوي خاصة ومنظومة المجتمع المدني عامة هي من صميم الأزمة التي لج فيها العقل العربي في مراحل بحثه عن الذات، وقراءته للتاريخ وخوضه لغمار صراعات فكرية في صلب الذات الإسلامية وفي مواجهته للوافد الغربي، مما أدى إلى نكوص العقل الجمعي وتخلفه عن ربط مضمون العلم بتفاصيل العمل، وبالمرحلة العمرية للأمة الإسلامية، وبالتالي ضياع موضوع التغيير. وهو ما يجعل هذه التراكمات العلمية الضخمة وهذه المعارف، غير متسقة مع أولويات الأمة واحتياجاتها الحقيقية العملية وتطلعاتها الداعمة لبناء المستقبل، وبالضمن لن تكون إلا معارف ملهية ومشوشة إن تم ربطها بعمل الجمعيات والمنظمات الخيرية، بل وقد تغدو معارف مبعدة عن الجادة ومبددة لطاقات الأمة دون أثر وبلا نتائج، وهو صلب ما يسمى بـ”علم التجهيل”. أي تلك المنظومة المعرفية التي تُنتج خطاباً علمياً أو ثقافياً يُبقي المجتمع في حالة عجز وفصل بين النظرية والممارسة، دون أن يدفعه إلى الفعل المؤثر والتغيير.
فعلومنا في عمومها طوباوية وفكرنا يكاد يكون مثاليا يلامس القضايا الملحة والجوهرية في سماء التنظير فقط وفضاء التمكن المعرفي السابح في عوالم معرفية مقنعة ومضبوطة بمناهج أكاديمية صارمة، لكنها تتيه سابحة في أفق الماضي ولا تجد من ينزلها منازل التدرج في الحياة اليومية ولا تجد لها حضورا ملموسا في الواقع، يتفاعل معها الناس، كل الناس، حيث لم يستقر في ذهن العامة أن العلم والعمل سيان وأن التنظير والممارسة متلازمان.
فالسؤال الملح، هو كيف يمكن بث وعي استراتيجي باللحظة المجتمعية والانتظارات الملحة الميدانية لدى الفاعل الجمعوي وفي ذهن العامة وفي صلب المجتمع؟ بل، كيف يمكن للممارس الميداني والمدبر لقضايا الشأن العام أن يفقه أن الهدف المرحلي الموصل للغاية المستقبلية هو خوض غمار المجتمع لاستنهاض الهمم ودمج العامة من الناس في عملية التغيير، وخلق شبكات محلية فاعلة ومتفاعلة كركيزة مجتمعية تبلغ مرحلة التدافع السياسي الآني إلى مرحلة الوثوب، وهي المرحلة التي تكون فيها العامة من الناس مشاركة في كل صغيرة وكبيرة من أمر المسلمين، وقادرة على مجابهة كل التحديات المجتمعية التي قد تكون عقبة في مسار التغيير؟ “فقمة التحدي نهاية هو أن ننزرع في الواقع ونتغلغل ونصبح فعلا حاضرا في كل مكان وفي كل ميدان، أن نكون فعلا مؤثرا ناجحا له نتائج” 1.
لكن، كيف ذلك وجل من يشتغل في ميدان العمل الجمعوي يفصل عمليا بين موضوع اشتغاله الخيري المدني وبين موضوع التغيير؟ كيف ذلك وجل الجمعيات لا تشتغل إلا وفق برامج متكررة لا تتجاوز أهدافا تظنها أهدافها، ولا تتفاعل إلا في وسط مؤسسي مكبل (كدار الشباب مثلا)، تحسبه فضاء فسيحا، في حين أن أسواره سجن وبرنامجه قيد يوجه عمل الجمعيات ويرسم خطا دقيقا للعمل الجمعوي، يفتل في توطين دعائم الاستبداد وترسيخ بنيانه.
لا يمكن اعتبار أن زخم الجمعيات وتنوعها ومساهماتها الخيرية والاجتماعية هو في حد ذاته دليل على تعافي المجتمع المدني وعلى أنه يقوم بأدواره المطلوبة. لأن الزخم بدون رؤية ولا بوصلة ولا أفق استراتيجي هو تمام الركود والسكون والتراجع وإن كثرت بهرجت الجمعيات واستعراضاتها. “فالمجتمع المدني لا يقتصر دوره على إدارة جمعيات وقفية خيرية، أو الإشراف على صناديق جمع الزكاة، أو توزيع الصدقة الجارية، بل هو أساسا تنظيم جماهيري للدفاع عن قيم الحداثة والتقدم، والتصدي لجميع أشكال الاستبداد، والاستغلال، والفساد، فلا قيمة، ولا تأثير لمجتمع مدني لا يتبنى رؤية سياسية مجتمعية ذات بعد مستقبلي” 2، إذ لا تكفي سلامة الغاية والمبتغى، بل لا بد من تنفيذ البرامج التي تتوقف عليها الوثبة الحضارية 3.
إن الأمة اليوم في أمس الحاجة إلى تجاوز “علم التجهيل”، نحو علم منهاجي استراتيجي يعيد صياغة وتشكيل معارفها المكتسبة والمستقبلية وفق مقاربة لا ترتفع عن الواقع، بل تلامس تفاصيل الحياة الميدانية في علاقتها بالمتغيرات النفسية والظرفية والعمرانية وارتباطاتها بمساحة التحديات والإمكانات، كي نحاور في حدود اختصاصنا المجتمعي قضايا العمل الجمعوي بخيط ناظم استراتيجي يتجاوز الواقع المقعد إلى أفق منهض، حيث تغدو جمعيات الأحياء الشعبية عاملا حاسما في معادلة التغيير، بالناس ومع الناس، لتساهم في فتح أفق التغيير الحقيقي، بعيدا عن التكرار، والارتجال، والاختزال.