بلون جديد وظفت فيه تقنيات الذكاء الاصطناعي، نشرت قناة الشاهد حلقة أولى من برنامج “ضيف من الماضي”؛ الذي يقوم على استدعاء شخصية إسلامية مرموقة في مجال معين من مجالات الفكر والسياسة والاقتصاد والعلوم والفلسفة.. توظف نصوصا من مكتوباته يتم التصرف فيها وربطها بأسئلة بهدف أن تصبح حوارا يبسط آراء الضيف، ويسقطها على الواقع ومستجداته بغية الاستفادة من أفكار وتجارب من سبق من العلماء العرب الأفذاذ؛ إحياء لجهودهم الجبارة، وربطا للحاضر بماضي الإسلام التليد.
في الحلقة الأولى، فتحت “الشاهد” “باب الحوار مع أحد أعظم العقول في التاريخ العربي والإسلامي، عالم الاجتماع والفيلسوف ابن خلدون. نستعرض مع ضيفنا قضايا تتعلق بأسس العمران البشري، ودورات الحضارات، والأسباب التي تجعل المجتمعات تزدهر أو تندثر. ننقل فكر ابن خلدون إلى واقعنا اليوم، لنرى كيف يمكن لفلسفته أن تلهمنا في فهم التحولات الاجتماعية، السياسية، والاقتصادية في العصر الحديث” كما جاء في تقديم الحلقة.
استهل المحاوِر الأستاذ عبد الكبير منجي بطلب تعريف للعالم الجليل، فكان الرد أن اسمه الكامل هو: عبد الرحمٰن بن مُحمَّد بن مُحمَّد بن خلدون الْحَضْرَمِيّ الإَشبيلي. وفي نبذة عن بداية حياته، أخبرنا ابن خلدون أنه ولد بتونس في اليوم الأول من رمضان سنة 732 للهجرة، وأنه قرأ القرآن في طفولته وحفظه ودرس القراءات السبع والحديث والتفسير والفقه إضافةً للنحو واللّغة.
تحدث ابن خلدون عن رحيله المبكر بعد انتشار وباء الطاعون في ديار الإسلام، ولأن الأمر يشبه ما أصاب العالم قبل بضع سنين من فشو وباء الكوفيد، فقد وقف المحاوِر مع ضيفه في بضع أسئلة، كان مما جاء فيها على لسان ابن خلدون أن “وقوع الوباء سببه في الغالب فساد الهواء بكثرة العمران لكثرة ما يخالطه من العفن والرطوبات الفاسدة..” بسبب “كثرة العمران ووفوره آخر الدولة”، ذلك أن الدولة، وفق ابن خلدون “لها عمر طبيعي تشبه مراحله مراحل عمر الإنسان، لها بداية ونهاية. حيث تكون في أول تأسيسها متصفة بالعنفوان، ثم تنتهي، وتكون نهايتها مصحوبة بتفاقم عدد الموتى”. فعندما “تهرم الدولة يكثر الفساد المالي والجبائي ويظهر الخوارج والثائرون على نظام الحكم البالي، وتزداد الأطماع الخارجية في خيرات الدولة، وتندلع الفتن والحروب” يضيف.
مما أخبر به ابن خلدون عن نفسه في هذا الحوار أنه رحل إلى المغرب حيث استقبله السلطان أبو عنان سنة 755هـ وعينه عضواً في مجلسه العلمي وكلفه بشهود الصلوات معه وبقي يدنيه حتى عينه بين كتابه وموقعيه، غير أن الأمر لم يعجبه لأنه لم يعهد مثله لسلفه.
وفي قراءة لما تمر منه تونس، ومعها بقية الدول العربية، من مخاض عسير نحو العدل، نوه ابن خلدون أن تحول نظام الحكم من خلافة إلى ملك هي سبب ما تعيشه الأمة المسلمة اليوم؛ إذ “الخلافة تحرس الدين وتسوس الدنيا به، والملك يكتفي بالنظر في مصالح الناس الدنيوية، على أساس من النظر العقلي”. وقسم أنماط الدولة إلى أربع: “دولة الشرع، دولة العقل، دولة الهوى، دولة المدينة”.
وبخصوص قولته الشهيرة “الظلم مؤذن بخراب العمران”؛ أوضح ابن خلدون أن “العدل أساس الملك، والظلم علامة خراب العمران، وهذه القاعدة مطردة النهايات، لا فرق فيها بين دولة مسلمة أو دولة كافرة، فمن جعل العدل أساس ملكه قويت شوكته، وعظمت دولته، وإن كان كافراً ودولته كافرة، وأن من جعل أساس دولته الظلم، لم تبق دولته، وإن كان مسلماً..”.
ويكمل ابن خلدون سرد قصته، وينبئ عن كيفية تحوله من علم السياسة إلى علم الاجتماع؛ حيث تفرغ للقراءة والتصنيف بعد أن عزم على ترك شؤون السياسة، وساعده مقامه في قصر بوهران على التنعم بالهدوء والاستقرار اللذين ساعداه على تصنيف كتاب العِبَر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر وهو في 45 من عمره، واستقراء التاريخ والنظر في تقلب أحوال الممالك وكيفية عمارة الأمم لهذه الأرض، والتأمل في الأسباب التي أنشأت الأحداث وكيفية جريانها وتطورها.
فكان مما أنتجه فكر ابن خلدون تبعا لذلك ما سماه بنحلة الغالب؛ فـ”المغلوب مولع بتقليد الغالب والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه، إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب”.
وكذلك “دين الانقياد”؛ ومما قال فيه ابن خلدون: “إن الدول العامة في أولها يصعب على النفوس الانقياد لها إلا بقوة قوية من الغلَب للغَرابة، وإن الناس لم يألفوا ملكها ولا اعتادوه. فإذا استقرت الرياسة في أهل النصاب المخصوص بالملك في الدولة وتوارثوه واحدا بعد آخَر في أعقابٍ كثيرين ودُول متعاقبةٍ نسيت النفوس شأن الأوّليّة، واستحكمت لأهل ذلك النصاب صبغةُ الرياسة، ورسخ في العقائد دين الانقياد لهم والتسليم، وقاتل الناس معهم قتالهم على العقائد الإيمانية”، “وربما طال أمَدُها بعد ذلك فتستغني عن العصبية بما حصل لها من الصبغة في نُفوس أهل إيالَتِها، وهي صبغةُ الانقياد والتسليم منذ السنين الطويلة التي لا يعقِل أحد من الأجيال مبدأها ولا أوّليتها. فلا يعقِلون إلا التسليم لصاحب الدولة”. وبذلك يكون المفهوم بداء الطاعة المطلقة للسلاطين دون اختيار لهم أو اعتراض عليهم، و”لكن الأطم هو استخفاف طواغيت العصبيات المتسلطة باسم الألقاب أو الأقوام أو الأعراق بالشعوب، وقَبول هذه الشعوب بالاستضعاف والاستتباع. واختلاقها لمصوِّغات يصوِّغون بها الظلم ويزينون أفعال الظالمين”.
وبذلك يكون “دين الانقياد هو الداء العميق” الذي أصابنا فانكسر الزمن من علياء الشورى الاختيارية إلى حضيض الفردانية الفرعونية.