من كتاب “الفوائد” لابن القيم رحمه الله تعالى.
حبسان منجيان
طالب الله والدار الآخرة لا يستقيم له سيره وطلبه إلا بحبسين: حبس قلبه في طلبه و مطلوبه، وحبسه عن الالتفات إلى غيره، وحبس لسانه عما لا يفيد وحبسه على ما ذكر الله وما يزيد في إيمانه ومعرفته. وحبس جوارحه عن المعاصي والشهوات وحبسها على الواجبات والمندوبات فلا يفارق الحبس حتى يلقى ربه فيخلصه من السجن إلى أوسع فضاء وأطيبه. ومتى لم يصبر على هذين الحبسين وفر منهما إلى فضاء الشهوات أعقبه ذلك الحبس الفظيع عند خروجه من الدنيا فكل خارج من الدنيا إما متخلص من الحبس وأما ذاهب إلى الحبس. وبالله التوفيق.
التقوى
ودع ابن عون رجلاً فقال: عليك بتقوى الله، فإن المتقي ليست عليه وحشة. وقال زيد بن أسلم: كان يقال: من اتقى الله أحبه الناس وإن كرهوا. وقال الثوري لابن أبى ذئب: إن اتقيت الله كفاك الناس، وإن اتقيت الناس لن يغنوا عنك من الله شيئا. وقال سليمان بن داود: أوتينا مما أوتي الناس ومما لم يؤتوا وعلمنا مما علم الناس ومما لم يعلموا، فلم نجد شيئا أفضل من تقوى الله في السر والعلانية، والعدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى.
وفي الزهد للإمام أحمد أثر إلهي: «ما من مخلوق اعتصم بمخلوق دوني إلا قطعت أسباب السماوات والأرض دونه، فإن سألني لم أعطه، وإن دعاني لم أجبه، وإن استغفرني لم أغفر له. وما من مخلوق اعتصم بي دون خلقي إلا ضمنت السماوات والأرض رزقه، فإن سألني أعطيته، وإن دعاني أجبته، وإن استغفرني غفرت له».
حسن الخلق من التقوى
جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين تقوى الله وحسن الخلق؛ لأن تقوى الله تصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه. فتقوى الله توجب له محبة الله، وحسن الخلق يدعو إلى محبته.
عبر وعظات
بين العبد وبين الله والجنة قنطرة تقطع بخطوتين: خطوة عن نفسه، وخطوة عن الخلق، فيسقط نفسه ويلغيها فيما بينه وبين الناس، ويسقط الناس ويلغيهم فيما بينه وبين الله، فلا يلتفت إلا إلى من دله على الله وعلى الطريق الموصلة إليه. صاح بالصحابة واعظُ: اقترب للناس حسابهم سورة الأنبياء، الآية: 24. فجزعت للخوف قلوبهم فجرت من الحذر العيون فسالت أودية بقدرها. تزينت الدنيا لعلي فقال: «أنت طالق ثلاثا لا رجعة لي فيك». وكانت تكفيه واحدة للسنة، لكنه جمع الثلاث لئلا يتصور للهوى جواز المراجعة. ودينه الصحيح وطبعه السليم يأنفان من المحلل، كيف وهو أحد رواة حديث: «لعن الله المحلل»؟
ما في هذه الدار موضع خلوة فاتخذه في نفسك، لا بد أن تجذبك الجواذب فاعرفها وكن منها على حذر، ولا تصرفك الشواغل إذا خلوت منها وأنت فيها، نور الحق أضوأ من الشمس، فيحق لخفافيش البصائر أن تعشو عنه الطريق إلى الله خال من أهل الشك ومن الذين يتبعون الشهوات، وهو معمور بأهل اليقين والصبر، وهم على الطريق كالأعلام وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون سورة السجدة، الآية: 24.