عبر طارق بن زياد من مضيق البوغاز ليبني أفقًا جديدًا لتاريخ الأندلس، ومن نفس المعبر المائي تمر سفن يقولون عنها “مشتبه بها”، لكنها محمّلة بالعتاد الحربي، في طريقها إلى شواطئ فلسطين الجريحة.
آه من عالم يتقن إنتاج لغة النفاق ولا يسمي الواقع المرئي بمسمياته: سفن “مشتبه بها” عندما تكون محملة بالعتاد الحربي! “ممنوعة” عندما تكون محمّلة بالدواء والغذاء!
ما كانت ذاكرة طنجة نساءة لماضيها المجيد بالفتوحات والعبور التجاري والعلمي إلى الضفة الأخرى، لكنها تتساءل اليوم كيف تفتح البحار أمام سفن الموت وتغلق أمام قوارب المساعدات والطحين للغزاويين؟
إنه تناقض يكشف قضية عدالة دولية مختطفة، وتوظيف انتقائي للقوانين، وضمير عالمي موبوء.
طنجة العالية يطل عليها جبل طارق ليذكرها برمزية قائد عسكري عبر البوغاز ليحرر الطبقات الدنيا والمستعبدين في الأندلس من حكام القوط الغربيين ومن استبدادهم وفسادهم وقوانينهم المجحفة، واليوم شاهد معها على مرور سفن الهلاك من المضيق.
طارق بن زياد صوت صدى تاريخ يقيم الحجة علينا ويحملنا مسؤولية أمانة صفاء بحر يرفض من يعكره بدم الغزاويين المقهورين.
إنه امتحان لأمتنا: هل تبقى شاهدة صامتة، أم تتحول إلى قوة تستعيد وعيها التاريخي اليقيني باقتحام متواصل لعقبات الانبطاح والخنوع وسبات إسلام مهادن.
مسافة رمادية بين قانونين
التسمية الرسمية للسفن المحملة بالعتاد الحربي “سفن مشتبه بها” تخفي في جوفها ثغرة قانونية خطيرة: قانون البحار يحمي حرية الملاحة لأهداف [سلمية وتجارية]، لكنه يتجاهل طبيعة الحمولة، بينما القانون الدولي الإنساني [يجرّم المشاركة في جرائم الحرب والإبادة]. هذه المسافة الرمادية بين القانونين يستغلها الكيان الصهيوني وحلفاؤه الغربيون، والمطبّعون من العرب، ليحولوا المضيق إلى ممر شرعي للعتاد المدمر، في حين تُمنع سفن الغذاء والدواء بدعوى “تهديد الأمن”.
إنها مفارقة تكشف لنا القانون الدولي الإنساني، الذي وُضع لحماية المدنيين زمن الحرب، يتحول إلى نصوص معطلة أمام “التحالف الغربي الإسرائيلي الأمريكي”، الخبير في اللعب على الثغرات، ليحوّل الجريمة إلى فعل قانوني، والإبادة إلى “إجراء أمني”.
طارق والدرس المرًّ
إن مرور السفن “المشتبه بها” عبر مضيق البوغاز، بما تحمله من عتاد حربي إلى فلسطين، لا يكشف فقط ثغرة بين قانون البحار والقانون الدولي الإنساني، بل يكشف أيضًا استمرار عقل سياسي قديم: عقل يبرر القتل باسم القانون، ويُغلق أبواب الحياة باسم “الأمن”. وهو العقل ذاته الذي أدار ظهره يومًا لرموز الأمة وأبطالها، حينما طُمس اسم طارق بن زياد، كانت نهاية حياته مأساوية في عهد هشام بن عبد الملك، لا لذنب اقترفه سوى تجاوزه الخطوط الحمراء للبلاط الأموي الدمشقي، ولأنه [من الموالي] أمازيغي لم يرَ فيه “الملك العاض” أهلية للمجد الذي صنعه بسيفه ودمه.
لم تشفع فتوحات الأندلس لصاحبها من نظام قائم على “بيعة الإكراه” والتوريث، يسقط الاعتبار عن كل إنجاز تنتفع به الأمة حين تختزل السلطة المركزية في شخص حاكم وعائلته. ضاع طارق الرمز بين أنياب الغيرة السياسية، كما يضيع اليوم صوت الشعوب بين أنظمة مطبِّعة تُخضع قرارها لإرادة الكيان وحلفائه.
ملك عاض يدفن أبطال العزة والكرامة وأنظمة معاصرة جبرية تدفن القضية وتساوم على الدم الفلسطيني. لكن، لن يُمحَ اسم طارق من ذاكرة الأمة رغم التعتيم، ولن تُمحى غزة من وجدان الشعوب رغم الحصار والإبادة.
تجويع الغزاويين الأحرار ليس مجرد مأساة إنسانية، بل شهادة على أن الحق لا يموت، وأن البشرى تولد من تحت ركام اليأس وأن بعد العسر يسريين. وكل رغيف يُمنع، وكل دواء يُحاصر، يزيد من انكشاف الوجه الحقيقي لمنظومة عالمية تزعم الدفاع عن حقوق الإنسان بينما تُساهم في قتل الإنسان وتجريده من كرامته ومخلوقيته.
إن التاريخ لا يُقاس بما تكتبه المؤسسات الدولية، بل بمواقف الأحرار، وما تحفظه ذاكرة المدن. إنه أفق ملبّد لمن فقد اليقين في وعد الله عز وجل وبشارات رسولنا الكريم ﷺ.
لكن طنجة، وهي ترى السفن تمر نحو غزة، لن تصمت وتترك البحر ممرًا للظلم، بل ستحوله إلى شاهد على ميلاد وعي جديد متجدد.
بداية البداية في مسيرة الدخول
إنه وعدَ الآخرة الذي بشّر به الحق عز وجل هذه الأمة بدخول المسجد الأقصى المبارك كما دخلوه أول مرة: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ ٱلۡأٓخِرَةِ لِيَسُوءواْ وُجُوهَكُمۡ وَلِيَدۡخُلُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوۡاْ تَتۡبِيرٗا.الإسراء، 7.
إن طـــوفان الأقــصى قد أساء وجوههم وإنه بداية نهاية العلو والفساد وبداية البداية في مسيرة الدخول 1. وقد ربط الله سبحانه هذا الوعد بدخولٍ ثانٍ على خطى الدخول الأول، يوم دخل الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعه صحابة رسول الله ﷺ فاتحين مطمئنين، لم يسلكوا منهاجاً غير منهاج النبي ﷺ، ولم يسيروا إلا على خطاه العطرة.
ومن هنا يتجلى لنا أن وعد الله في كتابه يلتقي مع بشارة رسوله صلى الله عليه وسلم في حديثه: «..ثم تكون خلافة على منهاج النبوة» 2. فلا يتحقق وعد الآخرة، ولا تتم البشارة الموعودة، إلا إذا سلك القائمون من الأمة منهاج رسولهﷺ.
وبحاملي روح رسالة شرف الإسلام الدولي إن شاء الله، سيتحرر البحر المتوسط من كونه ممرًا للسفن “المشتبه بها”، ليعود ممرًا للحضارة والعمران وتواصل الرحمة والحكمة. وسيذوق العالم طعم الدين كما أراده الله سبحانه: دين الإيمان والأمان لكل إنسان.
وصلاتي على النبي المفدى … تكسب القرب في رياض الجنان 3
[2] قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكًا عاضًّا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعه إذا شاء أن يرفعه. ثم يكون ملكًا جبريًا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعه إذا شاء أن يرفعه. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة». ثم سكت.
[3] الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله، قطوف2 خاتمة قطف87.