لله درُّ الشاعر الفحل أبـي الطيب المتنبـي القائل فـي مطلع ميميّته المشهورة:
عَلــى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتـي العَزائِمُ وَتَــــــأتــــي عَــــلـى قَدرِ الكِـرامِ المَـكــارِمُ
وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيـرِ صِغارُهــا وَتَصغُـرُ فـي عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ
ومعناه أنه علـى قدر منسوب العزيمة والإرادة تتحقق الأمور العظيمة، وعلـى قدر مستوى الكرم تُنال أعلى درجات السمو، وبناءً عليه، يتحدد سقف الإنجازات، فضعاف الإرادة يستعظمون الأمور البسيطة، بينما يستصغر العُظماء عزما وإرادة الأمور العظيمة صعبة المنال. تصنيف للناس بحسب ما يُفتعل فـي وجدانهم من عزم وإرادة.
مقدمة أقدِّرُ أنها تناسب حدثا من عيار “طوفان الأقصـى”، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وستبقـى ارتداداته زمنا ليس بالقصير؛ كيف لا وقد جاء ضد التيار ليقلب كل التوقعات، وينسف كل المخططات، ويُجهض أحلام من حسِبوا أن الجو خلا لهم ليُقبروا قضية الشعب الفلسطينـي.
واعتبارا لما توفر للمقاومة، فـي ظل حصار خانق لحوالـي العَقدين من الزمن برا وبحرا وجوا، من إمكانيات عسكرية ولوجستية متواضعة، مقارنة بقدرات الاحتلال إضافة إلـى ما وُضع تحت تصرفه من قدرات هائلة ودعم يكاد يكون عالميا عسكريا وسياسيا وإعلاميا واستخباراتيا، فإن عملية طوفان الأقصـى جاءت لتؤكد ما خصّ الله تعالى به المقاومة من مضاء عزيمة وقراءة مسددة للمرحلة وحسن توكل بعد إفراغ الجهد فـي الأخذ بالأسباب، فلا عجب أن تأتـي النتائج مبهرة صادمة لصغيري الهمم ضعاف الإرادة – بالنظر لما ترسخ فـي نفوسهم من وهْم قوة الجيش الذي لا يُقهر- الذين اعتبروا ما أقدمت عليه المقاومة انتحارا ورميا بالشعب الفلسطينـي فـي أتون التهلكة.
لقد توافرت كل الشروط ليصنف يوم السابع من أكتوبر 2023 فرقانا جديدا أعاد سردية غزوة بدر التـي ودّ المسلمون يومها غير ذات الشوكة/عير قريش استردادا لأموال نُهبت منهم بعد قرار الهجرة إلى يثرب، لكن الأقدار الإلهية، كما فصلتها سورة الأنفال، ساقت المسلمين وهُم فـي حالة من الاستضعاف لتدشين عهد جديد فتحت للمشروع الإسلامـي باب العالمية.
ومثلما اعتبر صناديد قريش الفرصة مواتية لاجتثاث شوكة الإسلام واستعادة الهيبة بين القبائل العربية، لم يتردد قادة الكيان الغاصب فـي إعلان حرب إبادة وتطهير عـرقـي تحت مسمـى “الدفاع عن النفس” سرعان ما استحالت عدوانا عالميا، فـي مسعـى لاستعادة الهيبة والردع باستئصال المقاومة والقضاء علـى قدراتها العسكرية؛ فـي حين سعت المقاومة لوأد مشاريع شـرق أوسط جديد تنمحـي فيه فلسطين من الخريطة، وتشطب قضيته من قائمة الملفات المشوشة علــى أطماع الاستكبار العالمـي.
ووعيا بحساسية النزال، سارع طرفاه لإضفاء طابع القداسة الدينية علـى المواجهة. فإذا كانت المقاومة استدعت حدث هلاك قوم نوح عليه السلام بالغرق فاستعارت اسم “الطوفان”، فالاحتلال تدرج فـي تصنيف عدوانه ليستقر علـى توصيف “القيامة”، شحذا للهمم وتعبئة للجبهة الداخلية.
وجودية المواجهة فـي تقدير الطرفين جلتها الأهداف المعلنة، فالاحتلال المجبول علـى سفك الدماء وصناعة النكبات، رأى فـي الرد علـى عملية طوفان الأقصـى مناسبة سانحة لتصفية المقاومة وتهجير من نجا من الشعب من الإبادة الجماعية خارج حدود فلسطين لطـي صفحة القضية الفلسطينية نهائيا؛ وأما المقاومة مدعومة بحاضنة شعبية وإيمان لا يتزعزع بعدالة قضية شعبها المضطهد منذ حوالي الثمانية عقود، فقدرت أن النزال يجب أن يُفضـي إلـى ثلاثة مخرجات: رفع الكلفة البشرية والمادية والمعنوية للاحتلال، وتحويل الكيان إلـى دويلة منبوذة عالميا، وإحياء القضية الفلسطينية لتتبوأ صدارة الانشغالات عالميا.
اليوم، وبعد أكثر من عام علـى العدوان الغاشم علـى قطاع غزة، وباستثناء التقتيل الوحشـي للمدنيين العزل ونسف المبانـي فوق رؤوس ساكنيها والاستهداف الممنهج لِلبُنـى التحتية لقطاع غزة ومؤسساته: المشافـي والمدارس والمساجد نموذجا، ما زالت المقاومة توجع الكيان الغاصب وتصيبه فـي مقتل، ولولا أسلوب التعتيم علـى ضحاياه قبل عتاده لانهارت جبهته الداخلية، بل لولا الدعم من الحلفاء التقليديين غربا ومن الحلفاء المطبعين عربا لما تأتـّى لهذا الجيش الذي لا يُقهر زعما الصمود، مثلما ما زالت الحاضنة الشعبية تسطر أروع البطولات تمسكا بأرضها والتفافا حول مقاومتها متحدية مخططات التجويع والترهيب.
بعد أكثر من عام، يحق للمقاومة وحاضنتها الشعبية إعلان تحقيق أهداف طوفان الأقصـى، فشعوب العالم استفاقت بعد عقود من التضليل الإعلامي لتكتشف زيف السردية الصهيونية القائمة علـى التطهير العرقـي والتهجير القسري للشعب الفلسطينـي من أرضه، وتنصدم بحالة التماهـي لأنظمة الغرب عموما، والولايات المتحدة تحديدا مع كيان عنصري غاصب للأرض؛ سردية حُبكت ونُقحت عبر عقود تزلزلت وتراجع بريقها بمشاهد الوحشية وتقتيل الأطفال ونسف البيوت بأبشع المتفجرات علـى مرأى ومسمع مما يُسمـى زورا مؤسسات المنتظم الدولـي.
بعد أكثر من عام من العدوان الصهيونـي ارتفعت كلفة الاحتلال فأضحـت إسرائيل كيانا مارقا يُتابع بجرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقـي، وتوشك حدود أغلب دول العالم أن توصد فـي وجوه قادته خوفا من الاعتقال، مثلما ساد فـي صفوف شعب الاحتلال شعور بكراهية شعوب العالم لهم: أحداث أمستردام نموذجا.
بعد أكثر من عام من الصمود الأسطوري للمقاومة مدعومة بجبهات الإسناد المختلفة، نجحت عملية طوفان الأقصى فـي خلخلة بنية الاحتلال؛ مؤسساته العسكرية والاستخباراتية ومراكزه البحثية وجبهته الداخلية والأنظمة الداعمة له سرا وعلنا، واستعادت القضية الفلسطينية زخمها، وتبوأت صدارة القضايا، وتأكد للجميع، إلا من آثر الجحود سلوكا، شرعية وأحقية الشعب الفلسطينـي فـي الوجود علـى أرضه حرا مستقلا؛ صمود أسطوري للمقاومة وحاضنتها أيقظ الضمير العالمـي كما جسده الحراك الطلابـي فـي الجامعات الأمريكية وفعاليات التضامن عبر العالم، إذ لا يكاد يخلو أي نشاط أكاديمـي أو ثقافـي أو رياضـي من التفاتة تضامنية تردد: Free Palestine.