طوفان الأقصى في عالم الأزمات والتحولات

Cover Image for طوفان الأقصى في عالم الأزمات والتحولات
نشر بتاريخ

يوم السابع من أكتوبر، يوم من أيام الله سوف يبقى محفورا في ذاكرة الصديق والعدو، الكبير والصغير، الرجال والنساء، ذلك لأنه عرف حدثا مفصليا في تاريخ الإنسانية جمعاء، وليس الأمة العربية والإسلامية فقط: إنه “طوفان الأقصى”.

نعيش اليوم الذكرى الثانية لطوفان الأقصى، ليس ليصبح تاريخٍا ينضاف إلى سجلات المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني وليقول المؤرخ: “في مثل هذا اليوم…”، بل هو قدر من أقدار الله يتصرف في هذا الزمان وفي مكان صغير من الأرض، تجاوز الحدود الجغرافية المحلية إلى رحاب العالمية، وأرجع القضية الفلسطينية إلى واجهتها الأصلية، لتمثّل محطة استراتيجية في مسار النضال الفلسطيني ضد العدو الصهيوني.

حدث جسّد التحدي الوجودي الأكبر في تاريخ إنشاء الكيان المحتل حيث كانت هي المرة الأولى التي لا يطرح فيها على نفسه سؤال النصر أو الهزيمة، بل أصبح السؤال الذي فُرض عليه هو سؤال البقاء أو الزوال؟

‎للجواب عن هذا السؤال القدري، أوغل الكيان المحتل في عمق وعيه الأكثر قتامة وعتمة، فأفرز المخزون الاستراتيجي لشره المطلق، والذي كان متواريا خلف أقنعة الدبلوماسية ولغة السياسة.

طوفان الأقصى لم يكشف فقط على هشاشة منظومة أمن الجيش المحتل فقط، بل عرى معها منظومات المعنى والقيم الذي يتبجح بها المنتظم الغربي الداعم رسميا للاحتلال. وما بدا في ظاهره اختراقًا عسكريًا، كان في جوهره اختراقًا أنطولوجيًا لهويةٍ تأسست على أساطير التفوّق والسيطرة والأمان.

‎فمنذ قيامها، نسجت الصهيونية حول نفسها شبكةً من المقولات التي شكّلت درعها النفسي والرمزي: من “الجيش الذي لا يُقهر”، و”إسرائيل بيتنا”، إلى “الله معنا لأن الدولة معنا”، و”كل يهودي هو سفير لإسرائيل”، وأن “الصهيونية هي حامية اليهودية”…

 كانت تلك الشعارات تعمل كمنظومة عقدية-سياسية تَضمن تماسك الجماعة العبرية وتُسكّن قلق الوجود اليهودي. حتى اندلع طوفان الأقصى لا ليخرق حدود غلاف غزة فحسب، بل لكي يخترق كل تلك المقولات المؤسِّسة ذاتها، مبدّلًا مفعولها من أسطورة تأسيس إلى نكبة وجود.

‎لقد بدأ الكيان الصهيوني منذ ذلك اليوم، تتكشف أسراره أمام رعاياه، قبل أن يصبح ذلك جليا أمام العالم، وتكشف معه زيف شعارات الغرب بالرعاية الأمريكية المتغطرسة، المؤسسة لــ”الدولة الحديقة” المبنية على الركائز التالية: إرساء مبادئ الديمقراطية، وتنزيل حقوق الإنسان وإدماج المجتمع المدني في المشاريع المجتمعية.

شعارات براقة سحرت عيون العالم أسست عليها وهم الدولة الحديثة، وأسست لنظريات مزيفة ومقولات ترعب بها الدول وتخضع أخرى في المنتظم العالمي عموما والعربي خصوصا (الإسلاموفوبيا، الإرهاب…).

طوفان الأقصى كشف حقيقة الاحتلال أمام المقاومة في غلاف غزة، وانكشفت معه عقيدته أمام المؤمنين بها في الداخل، كما انكشفت سرديتها أمام مؤيديها في الخارج. وتحوّلت “الدولة المعجزة” إلى مختبرٍ مفتوح لانهيار الرموز: فالمقدّس فقَد قداسته، والقويّ تزعزع يقينه، والمطمئنّ اكتشف أنه كان يقطن داخل فخٍّ عنكبوت منسوج من خيوط الخوف.

 لم يكن طوفان الأقصى حدثًا في الجغرافيا الترابية، بل شكّل حدثًا في الميتافيزيقا السياسية للغطرسة الاحتلالية المستضعِفة، مؤذنا بانتهاء زمن الشعارات الزائفة، وانطلاق زمن المرايا الكاشفة: فالدولة المحتلة اليوم لا تواجه مقاوميها، بل أصبحت تواجه كينونتها في العالم بأسره.