طوفان الأقصى.. قد تبين الرشد من الغي

Cover Image for طوفان الأقصى.. قد تبين الرشد من الغي
نشر بتاريخ

مرت سنتان كاملتان على حدث طوفان الأقصى، وكان للناس فيه طريقان لا ثالث لهما، طريق الرشد وطريق الغي، ولا يستقيم أن نصنف السكوت والحياد ضمن طريق الرشد.

 وقبل التمييز بين أهل الرشد وأهل الغي، نسجل عددا من الملاحظات التي أبان عنها طوفان الأقصى ومنها:

  • العديد من الشعوب خالف موقفها موقف الأنظمة الرسمية سواء من العرب أو الغرب.
  • العديد من الأنظمة الغربية تنكرت لما كانت تدعو إليه من قيم وحرية وحقوق، فتجاهلت حقوق الأطفال والنساء والمرضى وحرمة أماكن العبادة والمستشفيات.
  • تناسى الإعلام الغربي أن طوفان الأقصى حلقة في حرب مستمرة بين المحتل وأصحاب الأرض، فسوى بين الضحية والجلاد.
  • دعم الدول الغربية الكبرى للاحتلال كان غير محدود، وخيانة وخذلان الأنظمة العربية الإسلامية لقضية فلسطين كان غير محدود أيضا.

أولا: الذين اتخذوا سبيل الرشد سبيلا

1. أهل غزة مقاومة وسكانا

اقتضى الشرع والمنطق أن يدافع أهل غزة عن أرضهم وعرضهم ومالهم، وأن يصمدوا أمام الاحتلال الغاصب، فاختاروا هذا السبيل عن عقيدة وقناعة ووضوح، فقاوموا وثبتوا وقدموا أثمان باهظة، وأذهلوا العالم كله، وأعطوا دروسا عالية بأثمان غالية، فأفهموا الناس أن الاستشهاد ربح خالص وأن الذل والخضوع  وقبول الاحتلال خسارة محضة، وهذا المعنى ينضاف إلى قواميس المقاومة والدفاع عن الأوطان والأعراض والأموال، كما لقنوا العالم دروسا بليغة في القيم والأخلاق وحسن التعامل مع الأسرى، وصنعوا ملاحم في الصبر والمصابرة عجزت العقول والأفهام عن استيعابها وإدراكها.

وكان السبيل سبيل رشد حقا وفعلا حين استوى القادة السياسيون والعسكريون وباقي أهل فلسطين في الابتلاء وتقديم الأثمان الباهظة، وتناقلت الأخبار عن قادة عسكريين وسياسيين كانوا بين الناس ووسط الناس ورفضوا أن يستأثروا بالأمن والأمان دون بقية الشعب.

2. شعوب الأمة الإسلامية وأحرار العالم

عبرت كثير من شعوب الدول العربية والإسلامية عن تضامنها المطلق مع فلسطين وغزة وذلك عبر أشكال متعددة ووسائل متنوعة، وعرفت العديد من المدن أشكالا تضامنية كل أسبوع طيلة السنتين الماضيتين أي ما يعادل ثمانية وتسعين أسبوعا، وامتد التضامن إلى الملاعب الرياضية والمهرجانات الموسيقية وأمام سفارات عدد من الدول التي تدعم الكيان الصهيوني.

أما أحرار العالم فطالبوا بحرية فلسطين وخاصة في الجامعات العريقة فأقاموا الخيام واعتصموا في ساحات الجامعات وطالبوا بوقف التنسيق العلمي الأكاديمي مع الكيان الصهيوني، وجوبهت هذه الأشكال التضامنية بالتعنيف والاعتقال وفض الاعتصامات، وهُدد بعض الطلبة الناشطين بالطرد من الجامعة، بينما هُدد بعض المنحدرين من أصول عربية إسلامية بالتهجير بدعوى معادات السامية، وكانت السمة الغالبة في دول أروبا  في مواجهة المطالبة بحرية فلسطين هي القوة والعنف، كما امتد احتجاجات أحرار العالم  إلى مصانع السلاح الذي يورد للكيان واعتبر المحتجون حكوماتهم مشاركة في حرب الإبادة، كما طال الاحتجاج عددا مهما من الموانئ التي تصدر الأسلحة للكيان الصهيوني.

3. اليمن وحزب الله

أسند كل من حزب الله واليمن طوفان الأقصى، وانخرطا فعليا في العمل العسكري والهجمات المسلحة، ولم يكتفيا بالشجب والتنديد المعهود، وقام اليمن باستهداف السفن الإسرائيلية أو المتوجهة إلى الأراضي المحتلة، وشكل ضغطا على الملاحة في المنطقة، وقدم حزب الله واليمن أثمان كبيرة من الرجال والبنية التحتية، فلم يتركا غزة لوحدها، وتجاوبت شعوب الأمة مع هذا الإسناد إيجابيا، وحاول البعض تكدير صفو هذا الإسناد بسبب مرجعية حزب الله والحوثيين الشيعية، وكذا تدخل حزب الله في أحداث سوريا ضد الثورة، وقد سجلنا أن عددا من الحكماء والعقلاء اعتبر إقحام هذه الاعتبارات غير مناسب في الوقت الراهن ومناف لواجب النصرة، وإسنادهم لطوفان الأقصى كان معتبرا ومشهودا، ولو أن دولا أخرى سلكت نفس السبيل لكان الوضع غير الوضع والصورة غير الصورة.

4. إسناد حقوقي وقضائي وإنساني

قامت دولة جنوب إفرقيا بالترافع عن فلسطين وغزة في المحاكم الدولية متهمة الكيان الصهيوني بالإبادة الجماعية، وشكل هذا الإسناد حرجا كبيرا للكيان الصهيوني ولكل من يدعمه، وكان قرار المحكمة واضحا وصريحا رغم الضغوطات الأمريكية. كما صدرت عشرات التقارير الحقوقية الدولية التي صنفت أعمال الكيان الصهيوني أنها خرق للمواثيق الدولية وللقانون الدولي، كما نددت منظمات الصحة والتغذية بهذه الخروقات.

ثانيا: الذين اتخذوا سبيل الغي سبيلا

1. الأنظمة العربية الإسلامية

رأت الأنظمة العربية الإسلامية سبيلا الغي فاتخذته سبيلا، وتمسكت به وأصرت أيما إصرار، وكأنه طوق نجاتها، تنكرت لمبدا الولاء بين المؤمنين، وكفرت بالرابطة العربية القومية، ولبست الجامعة العربية ورابطة العالم الإسلامي لباس الذل والهوان، وأصبحت محطة سخرية واستهزاء بين عامة الناس، وشَكَت نساء غزة وأطفالها وشيوخها العربَ والمسلمين إلى الله ورسوله، وكان أشد إيلاما على أهل غزة أن أغلقت مصر والأردن حدودهما ومعابرهما ومنعتا الماء والدواء ولم تراعيا حرمة الدين والعروبة والجوار والمشترك الإنساني، واكتسبت بعض الدول وقاحة كبرى فكانت ترسل السلاح والغذاء إلى العدو الصهيوني، ودول أبت إلا يكون لها حظ ونصيب من حرب الإبادة على أهل غزة فكانت موانئها تستقبل السفن المحملة بالأسلحة وتزودها بالوقود والمؤونة قبل أن تتجه للأراضي المحتلة لقتل الأطفال والنساء والأبرياء. وفي جسارة كبرى وغير مسبوقة منعت بعض دول العرب والمسلمين المواطنين من تنظيم وقفات ومسيرات تضامنا مع طوفان الأقصى بل مُنعوا من رفع العلم الفلسطيني، هذا مسلك وسبيل لا يصلح إلا أن نسميه بسبيل الغي.

2. مجلس الأمن والأمم المتحدة

كشف طوفان الأقصى حقيقة مجلس الأمن والأمم المتحدة، وأبان مدى مصداقيتها والتزامها بما سطرته من مهام ووظائف، ووقف “الفيتو الأمريكي” وجها لوجها أمام قيم المساواة والعدل والانصاف، فخسرت هذه القيم الرهان مرات عديدة، وأشهر الفيتو ضد وقف حرب الإبادة، ومَثَّل ذلك ملامح نظام عالمي جديد يعتمد القوة والقوة فحسب. وصار مجلس الأمن يحمل عكس مسماه.

3. الأنظمة الغربية

انحاز الغرب بداية طوفان الأقصى إلى الكيان الصهيوني كلية، فتبنى رواياته وسردياته، وبادرت عدد من الدول الأوربية إلى إنشاء جسور جوية تمد الكيان الغاصب بالسلاح والعتاد، وتفاخرت دول أوروبية بدعمها الاستخباراتي للكيان الصهيوني عبر الأقمار وما استجد في عالم التكنولوجيا لتوجيه الكيان في حرب الإبادة، وضدا على حرية التعبير منعت دول أوروبية التظاهر والتضامن مع فلسطين فكانت تفض الوقفات والمسيرات بعنف غير مسبوق، وتمنع من ارتداء رمز القضية الفلسطينية : الكوفية. فجسدت أوروبا ازدواجية في المعايير فكانت تستضيف أنصار الصهيونية للجامعات وللمؤسسات التشريعية للتسويق لسردياتها، وسَخَّرت الإعلام الغربي ليقدم المستعمر المحتل في ثوب الضحية. وهذا انحراف بين عن القيم التي طالما تغنى بها الغرب وهو ما أسميته بسبيل الغي.

4. العلماء والمؤسسات العلمية

أخذ الله الميثاق على العلماء أن يبينوا للناس ما نزل إليهم من ربهم ولا يكتمونه، فاقتضى ذلك أن يكونوا أول إسناد لطوفان الأقصى للولاية بين المؤمنين، ولتقديم العون والدعم لمن استنصر في الدين، لكن العلماء في مجملهم أخلفوا الموعد وصموا آذانهم ولم يخشوا الله وحده بل خشوا الحاكم والمناصب وآثروا السلامة. وهذا الموقف المتخاذل من العلماء يطرح قضية جوهرية في علاقة العلماء بالحكام وهي قضية استقلالية العلماء، ثم إن حياد العلماء وسكوتهم لا يشفع لهم، لأن تأخير البيان عن وقته لا يجوز، ونصرة من استنصر في الدين واجب شرعي وهو في حق أهل العلم في نازلة طوفان الأقصى متعين، ولا يقابله إلا الخيانة والخذلان، والسادة العلماء أدرى بهذا وأعلم.

5. الأحزاب السياسية والنخب المثقفة

لم نسجل مواقف واضحة ومشرِّفة لعديد من الأحزاب السياسية، فكثير منها التزم الصمت، ولم يشر في بلاغاته ومؤتمراته إلى رفض إبادة الشعب الفلسطيني ولم يعلن موقفه الواضح من التطبيع، وهذا يحسب عليهم والتاريخ يسجل، ولم نسمع إلا النزر اليسير من أهل الفكر والثقافة الذين عبروا عن مواقفهم ومبادئهم المساندة لطوفان الأقصى، وهذا يسائل مسألة القيم عند النخب والفئة المثقفة.

خلاصة

لو أن الأنظمة العربية الإسلامية والعلماء والنخب الفكرية والمثقفة والفاعلين السياسيين رأوا سبيل الرشد واتخذوه سبيلا، وفَعَّلوا مبدأ الولاية بين المؤمنين، ونصروا من استنصروهم في الدين، ولم يوالوا أعداء الدين وأعداء الأمة لكانت الصورة غير الصورة والمآل غير المآل، ولكن لا راد لما قضاه الله وقدره، وما أصاب ما كان ليخطئ، كل ذلك بما كسبت أيدي الناس، فالواجب الشرعي عُطل وترك، والشعوب عبرت عن موقفها إسنادا لغزة وأهلها، واتضح أن الهوة بين الحكام والشعوب تزداد يوما بعد يوم، ولعل الأنظمة القائمة هي أصل الداء ومنبع البلاء، وغذا يفرح المؤمنون بنصر الله.