مرّ السادس من شهر أكتوبر 2023 وهو يحمل معه نشوات الانتصار لدى ساكني الكيان الغاصب بذكرى صمود جيشهم الذي صدقوا أساطيره الأولى كما صدقوا أسطورة آبائهم الذين جاؤوا بهم من أقاصي الأرض لفيفا إلى حيث سيُكتب لهم أن يسومهم رجال أولي بأس شديد نسبهم الله لنفسه سوء العذاب؛ احتفالات ورقص للجنود، واستعدادات لاقتحامات روتينية للأقصى أضحت نزهة للطارئين استعدادا لتدنيسه وإقامة طقوسهم التلمودية منتشين بدرجة الحماية، التي توفرها لهم أحد أعتى الأجهزة الأمنية والاستخبارية في العالم في ظل تزايد متنامٍ للحضور اليميني المتطرف داخل صندوق القرار الحكومي لدولة الاحتلال. والهدف أن يستقر في ذهن المقدسي المقهور صباح مساء ومعه الفلسطيني والمسلم عامة التسليمُ للأمر المحتوم الذي من أجله جيء بالبقرات الحُمر من بقاع الدنيا، وهو هدم الأقصى وإقامة الهيكل اليهودي الموعود في الأسطورة التلمودية الغارقة في الحقد والكراهية.
وفي الاتجاه المقابل لم تكن الأفئدة الفارغة في جمهور الأمة تتخيل أن بعد 6 أكتوبر، الذي كان مرتبطا في مخيلاتهم بالعجز العربي الرسمي عن إيقاف جرائم عصابات الصهيونية بأقدس مقدسات الأمة طوال حروب متتالية بين جيوش نظامية من جهة وشرذمة قليلة من لصوص مرتزقة، هناك 7 أكتوبر الذي نقل الأمة نقلة في عشرين دقيقة من زمن الذل والهوان إلى زمن الانتصار والاعتزاز على يد رجال آمنوا بقضيتهم وعملوا بيقين المنتصر الذي لا يأتيه من بين يديه شك ولا كلل ولا ملل.
1. معركة طوفان الأقصى محطة فارقة في مسار التحرير
في مشاهد صدمت الكيان الذي نام ليلة السابع من أكتوبر مطمئنا لجبورته، بل نام لسنوات وغشاوة قدرة الله على أبصاره التي لا تفارق الفلسطيني تحصي وجباته وتحركاته، وتقتحم عليه حميميته وخصوصياته، وتصغي لأزيز الذباب الذي يحوم حول أذن المواطن في غزة خاصة مقاوميها وأقربائهم مستعينا في ذلك بأحدث الأجهزة والتطبيقات التي تسمع وتُصوِّر كل شيء بدقة عالية، إلى حد أن أضحى الكيان يُطلب ويرغب وده في العالم، بل ولدى حكام المسلمين، ليبيع لهم ما به يحصون أنفاس شعوبهم، أقدمت كتيبة من المقاومين المقدامين على كسر كل المعادلات المادية للتفوق العسكري التي أحكمها الكيان الغاصب لفلسطين لعقود خلت.
في صبيحة 7 أكتوبر 2023 دشنت المقاومة الفلسطينية مرحلة جديدة في مسار التحرير في أوجه أحد أعتى أنظمة الإحلال والاحتلال في التاريخ الحديث، بعد أن أصبح الغالبون المحتلون ينتظرون بانتشاء لحظة الإعلان عن فلسطين بدون فلسطينيين وبدون مقدسات. بل وأضحى المغلوبون المستسلمون للأمر الواقع لا يرون الحل إلا تصفية القضية والبحث عن بقع أخرى في الأرض لأهل الأرض أو الرضا بالدونية مواطنين درجة ثانية في مستوطنات الصهيوني.
كما أتى النصر الاستراتيجي للمقاومة في زمن أضحى فيه الإقليم المحيط بفلسطين في أسوأ مواقفه تسابقا للارتماء في أحضان الصهيوني تطبيعا للعلاقات، بل تمهيدا لنفوس الشعوب لتقبل الواقع الشاذ عقيدة وأخلاقا ومروءة ولتقر بالمصالح “اللاوطنية” التي تحتم عليها تقديم فسلطين وشعبها ومقدساتها قربانا للصهيوني، لعلّه يتدخل لدى شرطي العالم ليمنحنا كلمات جوفاء من كل معنى في هذه القضية أو تلك.
هو نصرٌ أتى أيضا بعد أن يئس الفلسطينيون من الخيار الذي فرضته قواعد الهيمنة الدولية منذ مدريد 1991 وأوسلو الأولى والثانية وشرم الشيخ وكل الاتفاقيات التي تلزم الطرف الفلسطيني فقط بكبح جماح المقاومة كلما أرادت الرد على جرائم الاحتلال في حق المقدسات والإنسان والأرض والشجر، بل وتفرض عليه تسليم الأحرار من المقاومين ليُنكل بهم في سجون الإذلال والإهانة وقتل الروح والمعنويات.
لقد أتت معركة طوفان الأقصى إذن هزة قوية لأركان وجود غير شرعي أحسّ لأول مرة منذ زرع حنظله في أزكى تربات الأرض سنة 1948، بل أيضا كانت هزة لأركان حفلة تصفية القضية التي لم يكن ينقصها سوى المباركة من أرض الحرمين لنعي الحرم الثالث. وبالمقابل كانت المعركة تقويما وجبرا للفَدع بواقع الفجأة والصدمة لجسم الأمة التي أقعدها الاعوجاج في عظامها ومفاصلها الحيوية بعد قرون من الاستبداد الداخلي وعقود الغزو الخارجي والتكالب الصهيوني على الأقصى وفلسطين الحبيبة.
2. العنجهية لن تصمد أمام الإيمان بالقضية
كان الإنجاز الاستراتيجي الذي حققته المقاومة في ظرف عشرين دقيقة أخرجت فيها منظومة متكاملة من الخدمة استخباراتيا وعسكريا، والصمود الأسطوري الذي أبداه شعب الجبارين في واحدة من أعتى حروب الإبادة والاستئصال التي عرفها التاريخ الحديث، مؤشرا واضحا أن الموقن بعدالة قضيته والمؤمن بقدسية معركته لن ترهبه العنجهية والتقتيل المادي للجسم والبنيان، ما دام ينشد الكرامة عزة وينفض عنه خمول الذل والرضا بالهوان الذي أضحى قاب قوسين أن يكون عقيدة استشرت في عقول وأفئدة لا ترى الحياة إلا استنشاقا للهواء مع الخنوع عوض استنشاق الحرية والكرامة مع الشموخ.
لقد تعرّضت المقاومة الفلسطينية، التي تواطأت ثعالب الغرب الداعم للحنظل الصهيوني على تصنيفها “إرهابية”، وهذا ديدنهم مع كل حركات التحرر الوطني التي صلت وجوه آبائهم وأجدادهم المُعمِّرين منذ أن قرّروا غزو العالم ونهب خيراته لإرضاء جشع الرأسماليين وصعاليك أوروبا منذ القرن 18م، لكل أشكال التصفية والحصار ومحاولات الإقبار، إرضاء لقتلة الأنبياء وكسبا لودّهم ونفوذهم وأموالهم التي أمدّهم الله بها ليعيدوا بها كَرّة الإفساد والفساد في الأرض إعدادا وتمحيصا لرجال الله أولي البأس الشديد لتنزيل وحي وعد الآخرة.
وما حققته المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر وما تلاه، صحّح الوجهة وردّ البصر إلى كل من كان مفتونا بأساطير الصهيونية وتفوقها العلمي والتكنولوجي والاستخباراتي والعسكري والنفوذ العالمي السياسي والأمني والاقتصادي، بل الافتتان بيدهم الطولى في كل نادٍ ومنتدى وبورصة وخمارة ومعلب رياضة وقمار… فقد هبّ رجال الله متسلّحين بإيمانهم الذي علّمهم أن الله ناصر جنده من قِلّة، وأن الرمي رمي الله بعد إعداد ما في الاستطاعة من بأس القوة ورباط الخيل، وأن النصر صبر ساعة واقتحامٌ وتوسُّطِ الشدائد المخيفة بيقين أن الله قاهر فوق عباده، وأن الغلبة والنصر بيد الله تعالى بعد إنجاز شرط الدخول على الأعداء من أبواب الفتوة والإقدام والبسالة من غير خوف ولا وجل، كيف لا والعدو هنا من أخبر عنهم الوحي القرآني أنهم لا يستطيعون القتال إلا من وراء جدر الإسمنت والحديد الطائر في السماء أو الذي يدبّ على الأرض.
إنجازاتٌ استراتيجية أصابت الاحتلال الصهيوني في مقتل، وتسببت له في سعار العار والهوان وكشفت زيف قوته التي بها طغى واستحكم في العالم، كيف لا يسعر وأساطيره المؤسِّسة هوت في أقل من ساعة، ونخبه العسكرية بمختلف رتبها في قبضة المقاومة، وحواجزه الأمنية والإسمنتية والذكية سقطت في دقائق، ومستوطناته تركت بدون حمايته، وتجول فيها المقاومون والمواطنون الأصليون لساعات يأسرون ويغنمون. وما كان منه إلا أن صبّ جام غضبه الذي يخفي جبنه بالقصف من الطائرات الشاهقة في السماء، والدبّابات المحصّنة البعيدة عوض النزول لميدان المواجهة والقتال من مسافة الصفر التي يعي الجيش الصهيوني أن أفراده الذين خبروا القسام والسرايا وكل فصائل الجهاد والمقاومة في الجولات السابقة لا طاقة لهم بالضيف وجنوده ورفاقه المقدامين في معارك الشرف والتحرير ونصرة الدين وأداء ضريبة الجهاد عن أمة كبّلتها أنظمة لا ترى عيشا ولا أمنا إلا في أحضان الصهيونية أو الصليبية.
بل، وحتى على مستوى خياره العاجز هذا، الذي أراد منه استهداف المقاومة عبر عقاب جماعي وإبادة وتهجير للحاضنة الشعبية للمقاومة فشل فيه فشلا ذريعا، ما جعل حتى أقوى المتحمسين والداعمين له من مستكبري الغرب ووكلائهم المحليين بدأوا ينفضون عنه بعد هنيهات الاستبشار أخيرا أن جاء من يخلصهم من عار واجبهم الذي تخاذلوا عنه ضدا على إرادة شعوبهم التواقة لتحرير الأقصى وكنس الصهاينة منه، بل وتواطأ بعضهم على تنفيذ مخطط تصفية القضية الفلسطينية عبر تصفية المقاومة وحاضنتها الشعبية، وفسح المجال لعلاقات شاذة مع كيان شاذ من بوابة التطبيع الذي أكدت فيه الشعوب كلمتها في استفتاءات جماهيرية من كل أصقاع بلاد العرب والعجم.
3. ما ضاع وطن وراءه مقاوم
يمضي الفلسطيني ومقاومته إذن في معركتهما التي يعرفان تفاصيلها جيدا، ويعيان أفقها، ويتسلحان بصوى الوحي في قضية تسمو فوق الجغرافيا دون أن تتجاهلها، وتخترق الزمن الحاضر نحو المستقبل دون أن تغفل عن سياقات الحاضر وإكراهاته، وتدور مع اليقين لا مع المصالح الضيقة، وتبني أساساتها على الأمة وقواها الحية لا على نخب الموالاة والوكالة.
يمضي الفلسطيني ومقاومته وبوصلتهما لا تنحرف لا تحت النار ولا في منتديات التدافع الأخرى. يواجه العقيدة الصهيونية الموغلة في الانحراف والعتو والإفساد والاستكبار بعقيدة إيمانية تتلمذت على القصص القرآني وسنة الله في عتاة بني إسرائيل، أن الله مدخر لهم وعدا في الآخرة سيسومهم فيها عباده سوء العذاب بشواظ وأبابيل وليدخلوا المسجد تحريرا كما دخله أجدادهم الفاتحين أول مرة، وليتبروا بمُتبَّرٍ ما علت الصهيونية تتبيرا.