إن تصريحات “نتنياهو” منذ بدء طوفان الأقصى يوم السبت صباحا في السابع من أكتوبر الجاري وما بعده، ومنها هذا التصريح المجنون ومفاده أنه لا خيار أمام “إسرائيل” إلا الحياة أو الموت، تدل على أنه فقد التوازن الذي يجب أن يحظى به أي رئيس بلد، “نتنياهو” الذي ألفه الجميع متغطرسا وواثقا من نفسه أصبح بعد الصعقة الأولى من الطوفان رمزا للاضطراب.
وفي تحليل لهذا الارتباك الذي صاحب خرجات “نتنياهو” منذ بدء الطوفان، قال أحد المستشارين الإعلاميين في تحليل له لشخصية “نتنياهو” بأن وجوه “نتنياهو” وفريقه ظهرت ممتقعة وتختزن خشية عميقة، مع محاولة واضحة لتجميد الانفعالات بغرض إظهار التماسك. وأضاف أنه “من المرجح أن ضربات الساعات الأخيرة التي سدّدتها المقاومة الفلسطينية لجنود الجيش قد خيمت بقوة في انتقاء المفردات والاختيارات التعبيرية المباشرة التي تعكس لغة جنائزية، فكلمة الألم هي الأبرز الليلة.”
وقد تميزت مراحل تسييره للشأن الإسرائيلي بكونه الأكثر تشددا في تاريخ الكيان الصهيوني تجاه الشعب الفلسطيني، ذلك أنه بدل نشدان السلام مع الشعب الفلسطيني وتفعيل خيار الاستقرار بالمنطقة على الأقل نظريا، استعمل السلام وفق منظور خاص به وهو محاولة إفراغ الشعب الفلسطيني من أرضه أو على أقل تقدير إفراغه من هويته التاريخية ومحاولة فرض شروط العبودية الحديثة عليه برعاية أميركية وغربية منحازة كليا للمحتل الغاصب.
إن “نتنياهو” شخصية مخضرمة عايشت الجيل القديم أو على الأقل الجيل الثاني الذي أتى بعد الجيل المؤسس، وهو الذي قاد الحكومة الإسرائيلية منذ التسعينات من القرن الماضي في عدة مراحل، وعوض أن يساهم في التماسك الداخلي المفقود في الكيان الصهيوني والذي بدا جليا في الاحتجاجات، والاضرابات، والامتناع عن الخدمة العسكرية، وتفضيل الرجوع إلى البلدان الأصلية، وظهور الفوارق الطائفية، والصراع بين السلط التنفيذية والتشريعية والقضائية، ومحاولة تقويض دور القضاء… فهو قد أصاب الكيان في مقتل بعد الطوفان باعتبار ظهور هذا الضعف والفشل علنا وعيانا، وهو يستنجد بأمريكا ضد فصيل واحد مسلح، شل حركة جيش الاحتلال في ساعات قليلة في سابقة لم تحصل لجيش الكيان الصهيوني، و ليتأكد أن هذا الضعف كان مستترا أمام وهن الطرف العربي الذي انسحب من الصراع، أو الفلسطيني الذي أرهقه الشتات وأرهقته الضربات المتتالية للكيان الصهيوني وخذلان القريب والبعيد. اللهم بعضه الذي آمن بالمقاومة كخيار وحيد للخلاص والتحرير.
وهكذا ومنذ بدء مسيرة السلام المزعومة سنة 1992 والتي كان “نتنياهو” أحد رموزها، والتي أبانت عن عدم جديته ومن خلاله عدم جدية الكيان الغاصب في إيجاد أي حلّ مع الفلسطينيين وذلك عبر الحروب التي شنّها بدون سبب على الشعب الفلسطيني وخصوصا قطاع غزة في العديد من المرات، عبر قتل وتشريد الآلاف من المدنيين بدون اتخاذ أدنى اعتبار للأمم المتحدة أو القوانين الدولية، مسترسلا في احتقار العرب والمسلمين وتدنيس المقدسات الإسلامية والمسيحية غير آبه بأي شيء اسمه العرب الذين تفرقت كلمتهم وضعفت شوكتهم وتشتت شملهم ويئسوا من مجابهة موحدة مع الكيان الصهيوني حربيا منذ اتفاقية كامب ديفيد ووادي عربة وغيرها من اتفاقيات الذل والاستسلام .
وبعد اضمحلال واختفاء دور الأنظمة العربية في مقارعة العدو الصهيوني والتي تكرس لديها في نفسيتها عقدة “إسرائيل” الخالدة والقوة التي لا تقهر ودخل معظمهم في التطبيع معه، آمن الفلسطينيون في شق مهم منهم بخيار المقاومة الصعب والذي تدرج في نموه خصوصا في قطاع غزة والتي انسحب منها السفاح شارون بعد أن كلفته الكثير، مرجّحا فرض حصار مشدد عليها بحرا وبرا وجوا في أكبر جرائم العصر الحديث وضربها بالحديد والنار بين فترة وأخرى حفاظا على الجانب الردعي. ولكن المقاومة صمدت وظلت تحشد وتستفيد من كل مقارعة لها مع العدو إلى غاية اللحظة التي نتحدث عنها وهي طوفان الأقصى.
وإذا كان العرب في أدبياتهم وتاريخهم يتحدثون عن النكبة سنة 1948 وعن النكسة سنة 1967 كتواريخ فاصلة في المنطقة، فإن الأدبيات الإسرائيلية والعالمية ستتحدث عن طوفان الأقصى كمنعرج ومرحلة فارقة بين عهدين عهد ما قبل أكتوبر 2023 وعهد ما بعدها، عهد سابق ساد فيه الكيان الصهيوني في المنطقة وفرض شروطه وغطرسته على الجميع وعهد جديد وهو ما بعد أكتوبر الذي دُشّن باختراق أراضي المحتل واختراق التحصينات الصهيونية الأكثر متانة في العالم، وأسر أبرز ضباط الجيش الصهيوني وقادته، وهو الأمر الذي أبان عن هشاشة الكيان الصهيوني النفسية والإيديولوجية والعسكرية والاستخباراتية في مقابل فصيل أو فصائل مقاومة تتساكن مع شعبها في قطاع ضيق يفتقد جميع أسباب الحياة العادية يسمى قطاع غزة.
والملاحظ أن النظام السياسي في الكيان وإن كان يدّعي لنفسه أنه ديمقراطي والأكثر مؤسسية في الشرق الأوسط، فإنه في الحقيقة يتأثر تأثرا كبيرا بالفرد القائد، وهكذا كانت واضحة بصمات بن غوريون، وكولدا مايير، وإسحاق رابين، وإسحاق شامير، وشارون… في مسار هذا الكيان، والملاحظ أنه في هذه النظم التي يتحكم فيها عدد محدود من الأفراد في عملية صنع القرار، تكون أهمية التحليل النفسي أكثر جدوى من حيث القدرة على التنبؤ بالمآلات المستقبلية.
إن فزع وتشنج “نتنياهو” واضطرابه تظهر حقيقة شخصيته المترنحة والفاشلة أمام الصعوبات الكبرى، فله من القدرة والمكر وانعدام الضمير ما يمكنه من النفاذ من المآزق المختلفة، لكنه إذا تعرض للمفاجآت الحادة فإنه يرتبك ويعجز عن اتخاذ القرار المناسب، وقد تناولته مجموعة من الدراسات منها دراسة قام بها الاخصائي النفسي الاسرائيلي شاؤول كمحي أحد المقربين منه والذي كان يراه انتهازيا، مشككا، يرى نفسه عبقريا ومتفوقا على كل منافسيه، ويكره الدول العربية المحيطة بالكيان الصهيوني على اعتبار أنها غير ديموقراطية يصعب الثقة فيها ويجب أن تبنى العلاقات معها على أساس الرعب الموجه نحوها، وأن فلسطين خاصة باليهود فقط وليس غيرهم. ولم تكن وجهة النظر هذه ثابتةً فحسب، في قراءة التحليل لشخصيته، بل أيضا ازدادت تطرفًا في شخصيته في مرحلة ما بعد 1999 إلى غاية يومه، وثمة تأكيد أمر ما إذا كان نتن ياهو قد انجر وراء ما بات يُعرف بأنه انزياح المجتمع في الكيان نحو اليمين والتطرف أكثر فأكثر، أم أنه كان أحد أهم عوامل هذا الانزياح.
إن هذا الفزع والاضطراب بالإضافة إلى ما تم سرده لا ينم عن خوفه على مستقبله الشخصي فقط في الاستحقاقات القادمة، ومخاوفه من انفراط الائتلاف الحاكم الذي طالما حرص عليه وخضع بموجبه لابتزاز الخصوم السياسيين المتحالفين معه، بل يدل على إفلاس المشروع الصهيوني الفكري والإيديولوجي الذي لم يتمكن من صهر اختلافات أفراده وطوائفه في مشروع مجتمعي ديموقراطي حقيقي، وفشله في التعايش والاندماج الطبيعي في المنطقة، وعجزه أن يجد له مكانا في العالم الحديث رغم قوة علاقاته المالية والإعلامية الدولية لأنه مشروع عرقي عنصري ذو نظرة شوفينية ضيقة ويتناقض مع القيم الإنسانية والكونية ونواميس الله الخالق في الأرض.
إن الغرب علم بحجم الكارثة بعد الطوفان، ولهذا بادرت مجموعة من الدول الامبريالية -طبعا- إلى تقديم الدعم اللوجسيتكي والنفسي ومنها الولايات المتحدة الأمريكية، التي أرسلت أكبر حاملات الطائرات على وجه السرعة قبالة شواطئ فلسطين رغم علمها أن “إسرائيل” تمتلك أكثر الجيوش تطورا وتقنية وعتادا، وهو ما قامت به بريطانيا كذلك عندما أعلنت أنها سترسل بارجتين حربيتين للمنطقة، كما صرحت إيطاليا وألمانيا وغيرها بتقديم الدعم اللامشروط، كل هذا لعل قلبه المرتجف يرجع إلى طبيعته. ولكن “نتنياهو” والشعب والجيش الإسرائيلي أصبح فارغا من داخله كفؤاد أم موسى وأضحى هيكلا بلا روح، وفرسا بدون فارس، وسيفا بدون ضاربه، وما حجم النار والقنابل الملقاة على القطاع الغزاوي إلا تجل واضح لهذا الفراغ والخواء، في مقابل القوة النفسية والثبات العقائدي الفلسطيني والإيمان الراسخ بانتمائه لأرض فلسطين لدى المقاومين وعموم ساكنة غزة…
سقط الصّنم الصهيوني سقوطا لن ينجبر منه نهائيا، وتهاوى الطاغوت وسيتهاوى معه الكثير من الأوهام، وسيتفكك هذا الكيان بمفعول هذه الضربة وبفعل عوامل النخر الداخلية الواضحة التي أصبح معها تفكك المجتمع الاسرائيلي واضحا اليوم ومسألة وقت فقط، وطالما حذر الحكماء من المثقفين الأوائل والأواخر من العلمانيين أو رجال الدين أو غيرهم في المجتمع اليهودي وتنبهوا لهذا الأمر ونبهوا له؛ فقد نشر شالوم عليخم في عام 1902 قصة بعنوان “مجانين” كتبها بعد أن شارك في رحلة نظمتها المنظمة الصهيونية بعد أن تم اقتراح منطقة أوغندا كبلد يمكن أن يجتمع فيه اليهود، كتب عليخم قصة بعنوان “الجمهورية اليهودية الأولى”. يحكي فيها عن مجموعة مؤلفة من ثلاثة عشر شخصا يهوديًا يبحرون في سفينة وسط بحر هائج، وتغرق السفينة ولكن ركابها يتمكنون من النجاة والوصول إلى جزيرة معزولة في عرض البحر، ويقررون أن يؤسسوا في الجزيرة أنماط حياة على غرار دولة مستقلة تكون بمثابة أول جمهورية يهودية، فأقام كل منهم حزبًا، وأسسوا برلمانًا يضم ثلاث عشر فريقا ولكنهم لم ينجحوا في انتخاب رئيس لليهود… ليخرج بخلاصة مفادها أنه يستحيل تجميع الصهاينة في وطن واحد وعلى هدف واحد مصداقا لقوله تعالى: تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى.
إن خلاصة الأمر أن الكيان لم يكن في يوم من الأيام جديا في خيار السلام، وأن فلسطين عاشت أفظع احتلال في التاريخ عمّر أكثر من خمسة وسبعين عاما، كلها تنكيل وقتل وتشريد للشعب الفلسطيني، وهو أضيق من أن ينتظم هويتين كما قال محمود درويش من منطلق التجربة والمعايشة:
إن هذه الأرض لا تتسع لهويتين!!!
إما نحن أو نحن!!!
نحن الباقون وهم العابرون.
نعم لقد أبحرت سفينة غزة وسط طوفان الأقصى.. واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين. صدق الله العظيم، والحمد لله رب العالمين.