طوفان الأقصى والنصر الموعود.. التهجير أو محاولة التهجير في ضوء سنن الله تعالى (1/2)

Cover Image for طوفان الأقصى والنصر الموعود.. التهجير أو محاولة التهجير في ضوء سنن الله تعالى (1/2)
نشر بتاريخ

 انطلق طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر من العام قبل الماضي عبر عملية دشنتها المقاومة الفلسطينية كقراءة دقيقة منها لمجريات الأحداث الفلسطينية والإقليمية والدولية، وقد فوجئ الرأي العام العالمي بما صاحب رد الفعل الصهيوني طيلة ما يقارب السنتين تجاوزت فيها سلطات الاحتلال حدود العقل والمنطق والقانون عبر ممارسات لم تكن لتصدق لو لم توثقها الكاميرات، ولعل أبرزها قطع الماء والغداء والدواء والكهرباء على زهاء مليونين ونصف من السكان مع ما صاحب ذلك من هدم للمنازل والمباني والمدارس والمساجد والمشافي وجميع البنية التحتية بمعظم القطاع عبر قصف عنيف جوا وبحرا وأرضا أدى إلى استشهاد حوالي 60 ألف مواطن فلسطيني وإعطاب الآلاف المؤلفة منهم.

وكان الأمر يزداد قتامة مع مرور الأيام خصوصا مع تواطؤ وصمت أغلب الأنظمة العربية كما وقعت أغلب النظم الغربية في الإحراج لأن ما يقع لا يمكن تبريره، ولأن الشعوب والمنظمات غير الحكومية أبدت موقفا صارما تجاه ما يقع، مما جعل بعض الدول تعترف بالدولة الفلسطينية وبعضها أصبح يضع جدولا زمنيا للاعتراف بها، ولعل أصعب ما مر على القطاع هو ما حصل منذ انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في بداية 2025 الجارية والمعروف بانحيازه الكامل للصهاينة، وأصبحت كلمات مثل محور نيتساريم ومحور فيلاديلفيا ومحور موراج وخطة الجنرالات وعربات جدعون والمدينة الإنسانية والمنظمة الأمريكية لتوزيع الأغذية وريفيرا الشرق الأوسط ونقط الإغاثة والمفاوضات… كلها أنواع من الهولوكست الموثق والتعذيب الممنهج ظلمات بعضها فوق بعض.

وإن قراءة هذه الأحداث من وجهة نظر تاريخية أو قانونية أو سياسية أو حقوقية أو بغيرها من المنهجيات الحديثة، لا تسعف وحدها رغم أهميتها في إدراك ما يقع، ولكن باستحضار القراءة عبر السنن الإلهية يدرك القارئ الكريم أن البشرية تدخل مرحلة حاسمة، لعل من أبرز تجلياتها إهلاك المحتلين الظالمين والتمكين لعباده المستضعفين بعد هذا التمادي في الظلم والإجرام والطغيان والتقتيل والفساد، الذي يعد سببا معجلا لوقوع هذه السنّة الإلهية.

سنقف في هذه المقالة عند سنة كونية بسطها القرآن الكريم في سورة الإسراء وتشاء الأقدار الإلهية أن تحدثنا عن نهاية بني إسرائيل في وعد الآخرة، الذي تكلمت عنه السورة في بدايتها حتى إن من العلماء والمفسرين من يسميها بسورة بني إسرائيل، وهي سورة مكية تعالج قضايا الإيمان كأغلب السور المكية، والإيمان في القرآن الكريم منظومة متكاملة تعنى بالمعتقد كما تعنى بالتصور العقلي والتطبيق العملي وهو ما يشكل جوهر حركية المنهاج النبوي عبر التحلي بشعب الإيمان وجعلها صلب بنية التفكير والتحليل والتغيير، وقد تحدثت السورة المكونة من 111 آية عن مجموعة من القضايا الجليلة والمهمة، منها وحدانية الله سبحانه وتعالى والتنبيه إلى فساد بني إسرائيل في الأرض المرتقب وهو ما يقع الآن، وإلى محورية القرآن الكريم وهدايته وإعجازه، وإلى مركزية شخص الرسول المكرم واعتباره هو الأساس وجعل اتباعه مناط الخير والفتح للأمة الإسلامية، وقد ذكر أحد المفكرين الدعاة أن هذه السورة هي أكثر سورة ذكر فيها القرآن والإنسان وفي هذا دلالة على أن مسرى النبي صلى الله عليه وسلم لن يتحرر إلا بجيل مرتبط بالقرآن والنبي العدنان وذلك منهاج النصر على الصهاينة، وسنركز في هذه المقالة على مفهوم الاستفزاز وربطه بما يقع حاليا في المكان الذي تصدر السورة وهو المسجد الأقصى وفلسطين عموما وما يرتبط بالقضية الفلسطينية عامة وقد وردت هذه اللفظة في ثلاث آيات متفرقات من سورة الإسراء.

معنى الاستفزاز لغة واصطلاحا

مادة فزز في اللغة العربية تأتي بمعنى الإزعاج والإفزاع كما ذكر أصحاب المعاجم كلسان العرب. وقد وردت في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع كلها في سورة الإسراء.

·      وَٱسۡتَفۡزِزۡ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتَ مِنۡهُم بِصَوۡتِكَ وَأَجۡلِبۡ عَلَيۡهِم بِخَيۡلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَوۡلَٰدِ وَعِدۡهُمۡۚ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا (64)

·      وَإِن كَادُواْ لَيَسۡتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ لِيُخۡرِجُوكَ مِنۡهَاۖ وَإِذٗا لَّا يَلۡبَثُونَ خِلَٰفَكَ إِلَّا قَلِيلٗا (76)

·      فَأَرَادَ أَن يَسۡتَفِزَّهُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ فَأَغۡرَقۡنَٰهُ وَمَن مَّعَهُۥ جَمِيعٗا (103)

وهذا الفعل يتعدى بنفسه كما في قوله تعالى واستفزز من استطعت منهم بصوتك ويتعدى بحرف من كما في قوله تعالى يستفزونك من الأرض، فإن تعدى الفعل بنفسه كان بمعنى الإزعاج والاستخفاف للفؤاد. قال في لسان العرب استفزه ختله حتى ألقاه في مهلكة، واستفزه الخوف أي استخفه. وان تعدى بـ ”من” كان بمعنى الإخراج والاستئصال بالقتل أو الطرد، وقال ابن عباس في تفسيرها: “يستأصلهم من الأرض”، فَضَمَّنَ الفعل “يستفز” معنى الاستئصال فعداه بحرف من، وهذا الفعل فزز فيه معنى الاضطراب والخفة لشدة الخوف والفزع، حتى قال أبو عبيد أفززت القوم وأفزعتهم سواء. والذي يظهر أن المعنى الأصلي والدقيق للاستفزاز هو الأول الإزعاج والاستخفاف للفؤاد وإن الخوف والهرب وربما الموت من شدة الاضطراب والهلع من نتائج المعنى الأول للكلمة. والآية فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا حسب التقعيد السابق تكون بمعنى الإخراج، وهذا صحيح أن فرعون بعد أن لحق بهم كان يريد طردهم على وجه الذلة والخزي، أو قتلهم أو استعبادهم على وجه أشد من ذي قبل، وإن كان قبل أن يتبعهم لم يوافق على طلب موسى بأن يأذن لهم بالخروج معه، ويريد بقاءهم لاستعبادهم وجعلهم في خدمته.

ولذلك فالطبري لم يشرح كلمة يستفز وهي عنده بمعنى يخرج. وقال القرطبي أراد فرعون أن يخرج موسى وبني إسرائيل من أرض مصر بالقتل أو الإبعاد، غير أن الاستفزاز ليس معنى مطابقا للإخراج بل هو أعم منه بدليل قوله تعالى إن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلفك إلا قليلا فقد جعل الإخراج من مكة دون الرجوع إليها علة للاستفزاز معنى أعم من الإخراج، وإنما هو الإخراج على وجه الخوف والاضطراب والهلع. وأما القاسمي فقد ألمح إلى المعنى أعلاه، فالشطر الأول من كلامه يدل على أن المفردة تدل في أصلها على الإفزاع والإزعاج بما يحملهم على الهرب خوفا من البطش، وهذا المعنى تؤيده آية أخرى من قوله تعالى فلما تراءى الجمعان قال إنا لمدركون (الشعراء61 ) ودخل الخوف نفوسهم من بطش فرعون وقد اختلف المفسرون في تبيان معنى كلمة الاستفزاز الموجبة للهلاك وللغرق، وحسب سياق الآيتين، فبعضهم قال بالإزعاج والاستخفاف والضغوط من أجل خلق حالة من عدم الاستقرار النفسي والاجتماعي. وبعضهم رأى أنه هو الإخراج نفسه والتهجير.

وعند التأمل في تفاسير القرآن الكريم نجد بعض الاختلاف بينهم، فقد ذهب بعضهم إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرجه الكفار وإنما هاجر بأمر من الله سبحانه وتعالى، وفي هذا الصدد ذكر المفسر الشيعي المعاصر محمد جواد مغنية في تفسيره الكاشف، كلاما جديرا بالتأمل: “لما عجز المشركون عن استدراج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المساومة، حاولوا أن يستخفوه ويزعجوه بكل وسيلة ليخرجوه من مكة… ولو أن المشركين أخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنوة وقسرا، بحيث يصبح لا يدري أين يتجه، لعجل الله في هلاكهم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة، إنما خرج منها بأمر الله سبحانه وتعالى إلى قوم يفدونه بالأنفس والمال والعيال، في حين ذهب بعض المفسرين إلى أن الأمر يتعلق بإخراج وتهجير، وهو الأمر الذي تؤكده الآية الكريمة عدد 40 من سورة التوبة: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ..(الآية ) وكما جاء في الحديث النبوي الشريف عَنْ عبداللَّهِ بْنِ عَدِيِّ ابْنِ الْحَمْرَاءِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ وَهُوَ وَاقِفٌ بِالْحَزْوَرَةِ فِي سُوقِ مَكَّةَ: (وَاَللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ.) 1

وجاء في تفسير الطبري عن معنى “قليلا” أي متى يحل العقاب الإلهي وأما القليل الذي استثناه الله جل ذكره في قوله وإذا لا يلبثون خلفك إلا قليلا، فإنه فيما قيل، ما بين خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى أن قتل الله من قتل من مشركيهم ببدر ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله “وإذا لا يلبثون خلفك إلا قليلا” يعني بالقليل يوم أخذهم ببدر فكان ذلك هو القليل الذي لبثوا بعد. حدثت عن الحسين، قال سمعت الضحاك يقول في قوله “وإذا لا يلبثون خلفك إلا قليلا” كان القليل الذي لبثوا بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم إلى بدر، فأخذهم بالعذاب يوم بدر، وبقوله “خلفك” أي بعدك.

ولعل بعض المفسرين يقولون أولها بدر بعد حوالي 17 شهرا عند مقتل عتاتهم السبعين من رؤوس الكفر في بدر الكبرى إلى مقتل بعضهم في غزوة أحد والأحزاب إلى فتح مكة وهي كلها قليل من السنين.

وقد جاء في تفسير الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى في كتابه الظلال: “عندما عجز المشركون عن استدراج النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الفتنة حاولوا استفزازه من الأرض، مكة، ولكن الله أوحى إليه أن يخرج هو مهاجرا، لما سبق في علمه من عدم إهلاك قريش بالإبادة. ولو أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم عنوة وقسرا لحل بهم الهلاك (وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا) فهذه هي سنة الله النافذة (سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا) .ولقد جعل الله هذه سنة جارية لا تتحول، لأن إخراج الرسل كبيرة تستحق التأديب الحاسم. وهذا الكون تصرفه سنن مطردة، لا تتحول أمام اعتبار فردي. وليست المصادفات العابرة هي السائدة في هذا الكون، إنما هي السنن المطردة الثابتة. فلما لم يرد الله أن يأخذ قريشا بعذاب الإبادة كما أخذ المكذبين من قبل، لحكمة علوية، ولم يقدر أن يخرجوه عنوة، بل أوحى إليه بالهجرة ومضت سنة الله في طريقها لا تتحول.” 2

وقبل أن يتحدث القرآن الكريم عن استفزاز النبي صلى الله عليه وسلم، تحدث عن أفعال يتبعها الطغاة في كل زمان ومكان وهي قوله تعالى: وَإِن كَادُواْ لَيَفۡتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ لِتَفۡتَرِيَ عَلَيۡنَا غَيۡرَهُۥۖ وَإِذٗا لَّٱتَّخَذُوكَ خَلِيلٗا (73) وَلَوۡلَآ أَن ثَبَّتۡنَٰكَ لَقَدۡ كِدتَّ تَرۡكَنُ إِلَيۡهِمۡ شَيۡـٔٗا قَلِيلًا (74) إِذٗا لَّأَذَقۡنَٰكَ ضِعۡفَ ٱلۡحَيَوٰةِ وَضِعۡفَ ٱلۡمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيۡنَا نَصِيرٗا (75) وَإِن كَادُواْ لَيَسۡتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ لِيُخۡرِجُوكَ مِنۡهَاۖ وَإِذٗا لَّا يَلۡبَثُونَ خِلَٰفَكَ إِلَّا قَلِيلٗا (76) سُنَّةَ مَن قَدۡ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ مِن رُّسُلِنَاۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحۡوِيلًا (77)” .

 يؤكد سيد قطب في تفسيره الظلال أنه رغم عدم تفصيل القرآن الكريم للوسائل المستعملة لفتنة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يشير إلى أمور وأساسيات يجب أن تكون في حياة المؤمن المقتحم والداعية أو حياة المجاهد وتشكل جوهر العملية التغييرية: “هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله، هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائما. محاولة إغرائهم لينحرفوا – ولو قليلا – عن استقامة الدعوة وصلابتها. ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة. ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته لأنه يرى الأمر هينا، فأصحاب السلطان لا يطلبون إليه أن يترك دعوته كلية، إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق. وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة، فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها!

ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق. وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسير، وفي إغفال طرف منها ولو ضئيل، لا يملك أن يقف عند ما سلم به أول مرة. لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء!”. 3

ثم يواصل سيد قطب فيقول: “والمسألة مسألة إيمان بالدعوة كلها. فالذي ينزل عن جزء منها مهما صغر، والذي يسكت عن طرف منها مهما ضؤل، لا يمكن أن يكون مؤمنا بدعوته حق الإيمان. فكل جانب من جوانب الدعوة في نظر المؤمن هو حق كالآخر. وليس فيها فاضل ومفضول. وليس فيها ضروري ونافلة. وليس فيها ما يمكن الاستغناء عنه، وهي كل متكامل يفقد خصائصه كلها حين يفقد أحد أجزائه. كالمركب يفقد خواصه كلها إذا فقد أحد عناصره!

وأصحاب السلطان يستدرجون أصحاب الدعوات. فإذا سلموا في الجزء فقدوا هيبتهم وحصانتهم، وعرف المتسلطون أن استمرار المساومة، وارتفاع السعر ينتهيان إلى تسليم الصفقة كلها!

والتسليم في جانب ولو ضئيل من جوانب الدعوة لكسب أصحاب السلطان إلى صفها؛ هو هزيمة روحية بالاعتماد على أصحاب السلطان في نصرة الدعوة. والله وحده هو الذي يعتمد عليه المؤمنون بدعوتهم، ومتى دبت الهزيمة في أعماق السريرة، فلن تنقلب الهزيمة نصرا.” 4

 ومهما يكن من اختلاف بين الرؤيتين فإن كلا الفعلين سواء التهجير أو الاستفزاز والإزعاج من أجل التهجير فهو مؤذن بالهلاك، ولكن السؤال الذي يتبادر للأذهان أن الأمر يتعلق بالرسل والأنبياء فقط ولا يتعلق بالأقوام والدول، ولهذا فإن السورة الكريمة تجيب في سياق نفس الآية بأنها سنة الله ولن تجد لسنة الله تحويلا، ويرى أصحاب النحو واللغة أن الكلمة النكرة (تحويلا وتبديلا) تفيد العموم، وفي سياق نفس السورة أن الأمر بقدر ما يتعلق بسنة إلهية خاصة بالرسل والأنبياء فهي تمتد إلى الأقوام والدول؛ ففي سياق السورة الكريمة تحدث الله سبحانه وتعالى عن قصة بني إسرائيل وفرعون كرمز للطغيان السلطوي والعلو في الأرض فقد جاء في الآية الكريمة عدد 103: فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا ويظهر في الآية الكريمة نفس الاختلاف الذي تم التطرق إليه أعلاه بين معنى التهجير أو الضغط والإفزاع والإزعاج والحمل على الإخراج والتهجير، يقول ابن كثير: “أي يخليهم منها ويزيلهم عنها فأغرقناه ومن معه جميعا وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض وفي هذا بشارة لمحمد صلى الله عليه وسلم بفتح مكة مع أن السورة نزلت قبل الهجرة، وكذلك وقع؛ فإن أهل مكة هموا بإخراج الرسول منها، كما قال تعالى: وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلفك إلا قليلا سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا؛ ولهذا أورث الله رسوله مكة، فدخلها عنوة على أشهر القولين، وقهر أهلها، ثم أطلقهم حلما وكرما، كما أورث الله القوم الذين كانوا يستضعفون من بني إسرائيل مشارق الأرض ومغاربها، وأورثهم بلاد فرعون وأموالهم وزروعهم وثمارهم وكنوزهم، كما قال: كذلك وأورثناها بني إسرائيل[ الشعراء : 59].” 5

 وكخلاصة اصطلاحية فقد اتضح من خلال ما سبق أنه منهج طغياني شيطاني يرمي إلى إزعاج أصحاب الحق والضغط عليهم ماديا ومعنويا لإرغامهم على التنازل عن حقهم أو إلجائهم إلى الخروج والتهجير من ديارهم، في مقابل صبر وصمود وعدم تنازل أصحاب الحق العادل لأن الشرط المشروط في سنة الاستفزاز هو اقترانه بسنة أخرى وهي سنة التدافع بين الحق والباطل أو منهج الصراع بلغة العصر، يقول الله سبحانه وتعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (البقرة:251) وفي سورة الحج الآية 40: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.

 مفهوم سنة الله

جاء في مقال للدكتور رشيد كهوس تحت عنوان في تعريف سنن الله تعالى بتاريخ 17 يوليوز 2018 وهو منشور بالجزيرة ما يلي: “السنن الإلهية هي إرادة الله الكونية، وأمره الشرعي، وفعله المطلق، وكلماته التامات ووعوده الحقة، وحكمه في آفاق الكون وتسلسل التاريخ، الجارية بالعباد من المعاش إلى المعاد.”

وجاء في مقال للأستاذة خديجة الكمري تحت عنوان مفاتيح لفهم القضية الفلسطينية من خلال كتاب سنة الله (لصاحبه الأستاذ عبد السلام ياسين): “سنة الله هي القانون الإلهي العام الذي يحكم حركة التاريخ والاجتماع البشري دون تمييز أو محاباة، فهي ثابتة لا تتغير، وهي عامة لا تستثني أحدا، وهي مطردة مستمرة متجددة، وترتب النتائج على ما سبقها من الأسباب، وفق قاعدة لا تعرف الشذوذ، وهي بتلك الصفات أصبحت فطرة الله التي فطر الناس عليها، وشكلت أساسا للعقل المسلم في فهمه لمحيطه ومختلف قضاياه وعلاقة ذلك كله بالمصير فردا وجماعة في الدنيا والآخرة.”

وعن أهمية معرفة سنة الله يقول الأستاذ عبد السلام ياسين في: “من العلم معرفة سنته تعالى في التاريخ، ومن التقوى التوبة إليه سبحانه ومراجعة سنته ومنهاج نبيه، وإعداد القوة للتعرض أمام رحمته القائلة: أن الأرض يرثها عبادي الصالحون (سورة الأنبياء 105)”. 6

ولعل الأمر لا يتوقف على مجرد المعرفة بل يتعداه إلى ضرورة محورية وملحة في الأمة جمعاء، تتمثل في تغيير الأنفس لتحصل عملية المقاومة وترويض التاريخ، يقول الأستاذ عبد السلام ياسين في كتابه سنة الله: “وقصدنا من التعرض في هذا الكتاب لسنة الله في تاريخنا إنما هو إحاطة المنهاج التربوي بالظلال والألوان لتبرز أهمية التربية. فالتربية ثم التربية ثم التربية هي المطلب المحوري للأمة.” 7

إن الله سبحانه وتعالى أوصى في كتابه العزيز بتدبر الآيات القرآنية والآفاقية ودعا إلى معرفة مآل المجرمين والمكذبين والظالمين، فقد تحدث القرآن الكريم عن سقوط الأمم وصعودها، وكل هذا له أهميته البالغة في إطار سنة الله الجارية في التدافع وما يتطلبه الأمر من دراسة للخصوم وتحديد نقط قوتهم ونقط ضعفهم في ميدان المدافعة وكشف أساليبهم في المواجهة وتحديد وسائل مجابهتهم، عبر تعميق أسس الثوابت التربوية والعلمية والتقنية التي استنبطها العلماء والمجددون، وتدعيم ركائز التصور العام الذي يواكب ما استجد في هذا العصر. وفي هذا يشير الإمام عبد السلام ياسين في كتابه سنة الله إلى كون هذا الأمر من صميم سلوك الفرد والداعية إلى الله بل هو لب المنهاج النبوي حيث يقول: “إننا نبحث عن الإحسان والإيمان والسلوك إلى الله سبحانه وتعالى ونَيل مقامات الكمال. لم نحدْ عن المطلب الإحساني بالدخول في سنة الله. بل يكون طلبنا لهذه المقامات أشبه بطريق الرسل وألصق بنموذج الرسل وأليق بواجبات الجهاد إن قبلنا إيمانا وتصديقا بسنة الله، واتبعنا عملا وجهادا وصبرا ومكايدة ومدافعة سنة رسل الله عليهم صلاة الله وسلام الله.

الخروج من المجتمع والهروب إلى الخَلوات كان ولا يزال اختيار كثير من الصوفية أكرمهم الله. ولمستقبل الإسلام يتحتم قبول الشروط التي وضعها الله عز وجل في المجتمعات البشرية واحترام قوانينه في التاريخ والتعرض بذلك لوعده بالنصر. قبول إيماني واحترام عملي هما ضمان النجاح. علمنا القرآن ذلك بالتقرير والقصص ومثلات الذين خلوا من قبلنا وأنباء الرسل. القبول الإيماني يصل دنيانا بآخرتنا ويربط مصيرنا في الآخرة بأعمالنا هنا. والاحترام العملي يثبت أقدامنا على الأرض، ويضع في أيدينا وسائل القوة التي أمِرْنا بإعدادها، ويعطينا مواصفات المؤمنين المجاهدين الذين يستخلفهم الله في الأرض ويمكنهم فيها رغم قوة من يريد أن يستَفزهم ويخرجهم منها.” 8

وفي نفس السياق يسير الكاتب والمفكر الدكتور مجدي محمد قويدر في مقاله سنة الاستفزاز في سورة الإسراء حيث اعتبر أن فقه سنة الله واجب شرعي ومطلب واقعي لأنها تمثل إرادة الله وأقدار الله ونظامه، وتعطي الاعتبار في صعود الأمم وسقوطها وتشكل منارا لتسخير الكون وامتلاك أدوات القوة من أجل تحقيق واجب الاستخلاف وهي ضرورية لإرساء شواهد التفكير المنهجي في قراءة الكتابين المسطور وهو القرآن الكريم والمنظور الكون الواسع والعالم البشري.

 ولعل ضخامة الأحداث الجارية وقوة الخصوم وحجم الأهوال والتحديات وقلة الحيلة والوسيلة وطول تدهور أحوال الأمة وتخلفها وتبعيتها قد تكون مدعاة للتراجع ولحوق الهزيمة النفسية والخمول الفكري وهي أشد ما يعتري أصحاب الدعوة والرسالة وحاملي مشعل النضال وأصحاب الكفاح المسلح في كل قضية ومنها قضية فلسطين، ولكن الاستقواء بالله واليقين في موعود الله الكبير والتسلح بالقرآن والمنهاج النبوي يعيد وعي التاريخ والفاعلية فيه يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: “عندما ننظر من إزاء القرآن وبمنظار القرآن نبصر القضية في أبعادها الضاربة الأعماق في سنة الله، العميقة الجذر في قلوب بني آدم، من جهة إيمانهم بالله وتصديقهم لرسله أو تكذيبهم. من إزاء القرآن لا ننسى الله ولا ينسينا الله أنفسنا. من إزاء القرآن لا يحجب عنا حقائق سنة الله وشروط نقمة الله وفتنة الناس ونصر الله طول الأمد، ولا تسلسل التاريخ الطويل، ولا تدهورنا وتخلفنا، ولا ضخامة الحضارة المادية العادية علينا المعتدية، ولا سيادة وِجهات النظر المادية، ولا الذهنية التقليدية الموروثة، ولا صخب المغربين من بني جلدتنا الدعاة على أبواب جهنم، ولا أي دخن طرأ على النفوس، وأربدت منه القلوب، وتعشت منه العقول، وخنست منه الإرادات، وغُم فيه على الرجولة، وبَلِيَ منه الإيمان .من إزاء القرآن نشرف على التاريخ وعيا، وبتطبيق القرآن عقيدة وعبادة وسلوكا وعملا على المقاصد وطلبا لها نستعيد أنفسنا من قبضة الفتنة التي أردانا فيها نسيان الله، وقساوة القلوب من عدم ذكر الله.” 9


[1] رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَ.
[2] سيد قطب، في ظلال القرآن، 4/2246.
[3] نفسه، (4/2245).
[4] نفسه، (4/2245).
[5] إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي، تفسير القرآن العظيم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1 سنة 1998م، 116/5.
[6] عبد السلام ياسين، محنة العقل المسلم، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ط 4، 2018، ص 93.
[7] عبد السلام ياسين، سنة الله الطبعة 2 /2005 مطبعة الخليج العربي تطوان ص: 47.
[8] عبد السلام ياسين، سنة الله الطبعة 2 /2005 مطبعة الخليج العربي تطوان ص: 08.
[9] عبد السلام ياسين، سنة الله الطبعة 2 /2005 مطبعة الخليج العربي تطوان ص: 67.