مقدمة
إذا أراد الله سبحانه وتعالى أمرا هيأ له الأسباب، يقول عز وجل: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [يوسف: 21].
قبل عام من الزمان، لم نكن نتوقع أن نرى مثل هذه الأحداث المتسارعة، أن يصل العدوان الإسرائيلي المدعوم من الغرب والشرق إلى هذا الحدّ من الظلم والتعذيب والدّمار والقتل والتشريد والتجويع والاغتيال والإبادة الجماعية في حق شعب فلسطيني أعزل، وأن يصل إلى هذا الحدّ من الاستهتار بالقوانين الدولية والقيم الإنسانية وأعرافها، حتى أصبح يُعرف بالشرّ المطلق.
قبل عام من الزّمان، لم نكن نتخيل أن يَصمُد شعب بأكمله في فلسطين، وخاصة في غزّة الأبية في وجه هذا الكيان الغاصب هذا الصمود البطولي والتاريخي، وأن يكبّده خسائر فادحة وهزائم متتالية، وأن يفشل مخططاته ومشاريعه التي تستهدف الوجود الفلسطيني الديني والجغرافي.
قبل عام من الزمان، لم نكن نتصور أن تتّحد قوى المقاومة رغم اختلاف المذاهب والطوائف في مواجهة عدو مشترك إسنادا ودفاعا عن القضية الفلسطينية وحمايةً لمقدسات الأمة. وأن تقوم بهذا التصعيد في مواجهة هذا العدو الغاشم بالعمليات البطولية برّا وبحرا وجوّا.
دروس مفيدة
إنّ ما عشناه ونعيشه من أحداث خلال عام من طوفان الأقصى على الساحة الفلسطينية وما سنعيشه في الأيام القادمة من خلال تحليل تأمّلي بسيط تظهر لنا مجموعة من النتائج، منها:
أولا: أن طوفان الأقصى قدر من قدر الله تعالى، وفعل من أفعاله الحكيمة، وأنه يشقّ طريقه كما أراده الله تعالى ووفق سننه الكونية والشرعية نحو إحقاق الحق وإزهاق الباطل، وأن الله تعالى لا يُخلف وعده في تأييده لعباده المؤمنين، وفي نصرته للمستضعفين، وفي إهلاكه للظالمين والمفسدين والمعتدين، وفي تحقيق وعده للمؤمنين بالنصر والفتح المبين.
ثانيا: أن طوفان الأقصى يؤرخ لمرحلة جديدة في حياة البشرية، مرحلة انتقال من عصر استحكمت فيه شروط الفتنة وشروط الجاهلية وقوى الشرّ المطلق إلى عصر تستحكم فيه قيم العدالة والكرامة والحرية والسلام العالمي.
ثالثا: أن طوفان الأقصى مدرسة للاعتبار وليس فقط درس في الابتلاء. مدرسة للإيمان بالغيب كقوة عظمى في التدافع وليس الغلبة للقوة المادية فقط. مدرسة للتخطيط الاستراتيجي واتخاذ الأسباب وليس انتظار المعجزات فقط. مدرسة في التجسيد العملي للأخلاق والقيم في السّلم والحرب وليس لمقولة الغاية تبرر الوسيلة.
رابعا: أن طوفان الأقصى أصبح مصدر حياة للأمة المقهورة والمستضعفة منذ قرون حتى تنهض من جديد، وتتوحد قواها الحيّة، فتحمل المشعل من جديد وتقوم بمسؤوليتها التاريخية في القيادة والإمامة وتبليغ رسالة الرحمة للعالمين.
خامسا: أن طوفان الأقصى يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن مستقبل الأمة يصنع على أرض غزة وفلسطين، من خلال معاني الجهاد والصمود والثبات والاستشهاد.
متطلبات المرحلة
الآن وقد مضى على طوفان الأقصى من المسجد الأقصى إلى المغرب الأقصى عام لا ندري هل ما زلنا في بدايته أم نحن في منتصفه أم نعيش بوادر نهاية الانتقال، المهم في كل هذا هو أن نعرف متطلبات المرحلة، خاصة ونحن نرى أن طوفان الأقصى أصبحت دائرته تتسع على مستوى رقعة الأمة لينخرط فيها كل مقاوم للظلم ومطالب للعدالة والكرامة والحرية. فمن متطلبات المرحلة:
أولا: ضرورة الوحدة: وذلك بتوحيد الصفّ الداخلي للأمة؛ فلا للمذهبية ولا للطائفية ولا لزرع الأحقاد سعيا لتشتيت الصف، بل ينبغي التركيز على العدو الحقيقي الذي هو الكيان الصهيوني وتوجيه كل الجهود من أجل تحقيق هزيمته على كل المستويات النفسية والاقتصادية والسياسية والعسكرية. كلنا نعلم أن الوحدة قوة عظيمة وأن التفكك والتشرذم ضعف وهزيمة.
إن ما يجمع أطراف الأمة اليوم لا ينبغي التفريط فيه، بل استثماره لتقريب الهوة، يجمعنا العدو المشترك، والمقاومة المشتركة، والمصير المشترك. يقول الله تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 92].
ثانيا: زرع اليقين: وذلك بالعمل على أن تكون جميع خطاباتنا وكتاباتنا مصدرا لبثّ اليقين في صفوف أبناء وبنات الأمة بأن النّصر حليف الشعب المستضعف، وبأن الغلبة لأصحاب الأرض المظلومين، وبأن إرادة الشعوب الحرة لا تُقهر أبدا. فزرع اليقين والأمل في الأمة هو السبيل إلى البعث النفسي ومحاربة الهزيمة النفسية التي يسعى البعض إلى نشرها. يقول الله تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [القصص: 5].
ثالثا: توسيع دائرة الانخراط: من خلال التعريف بالقضية الفلسطينية بأنها أم القضايا، وبأنها قضية إسلامية قبل كل شيء، فيها مقدسات يجب على كل مسلم غيور أن يدافع عنها بحسب قدرته وبالأسلوب الذي يراه مناسبا. ثم من خلال الانخراط في جميع أشكال الدعم والتضامن الذي تتيحه المؤسسات والمنظمات والجمعيات المدافعة عن القضية الفلسطينية والمناهضة للتطبيع مع الكيان الصهيوني. فلا يمكن لفئة قليلة تستميت في الدفاع عن الأرض المباركة ومقدساتها وفئات عريضة من الأمة تتفرج، هذا ليس من الدين في شيء.
خاتمة
إنّ نظرة المؤمن الصادرة عن المنهاج النبوي والمجسِّدة له، هي نظرة إيجابية تؤمن بالغيب وتصدّقه، وفي نفس الوقت تتخذ الأسباب الكفيلة بتحقيق الأهداف الدنيوية والغايات الأخروية. يقول الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ [الأنفال: 60].
سنة الله هي أن يبقى التدافع بين أهل الحق وأهل الباطل. وهو تدافع أزلي ومستمر، يقول الله تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة: 251]. فالمؤمنون يبحثون في المنهاج النبوي لصياغة الشخصية الجهادية من خلال الإحسان لقيادة الأمة وتثبيت القيم الإيمانية والإحسانية في سلوك الأمة، والآخرون يعملون لعزل الشخصية الإيمانية وتجريد الأمة من تلك القيم والأخلاق لنشر الفساد والمنكر.
وتبقى سنة الله هي العامل الحاسم في كل معادلة تَدافع بين الحق والباطل، يقول الله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج: 40].
يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى في كتابه “الشورى والديمقراطية”: فماذا نحن فاعلون بعد الطوفان؟ الطوفان حتمية تاريخية، الطوفان سنة الله تجرف الاستكبار عندما يعتدي الاستكبار ويتعدى وتأخذه العزة بالإثم.
اللهم إنا نسألك الرحمة لشهداء الأمة في كل مكان، والشفاء لجرحاها، والحرية لأسراها، والنصر لمجاهديها. آمين.