عاشت الأمة الاستلاب والوهن لردح من الزمن، لا تكاد تفيق من سبات عميق، والتف حول عنقها حبل الاستبداد، فازداد النخر واستشرى في عظامها المتهالكة السوس حتى بكى لحالها كل غيور. فهل يمكن اعتبار طوفان الأقصى بداية التحرير ودفع الوهن؟
أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عن تقهقر حال الأمة في وصف دقيق، وتوصيف للداء ومعه الدواء لمن ألقى السمع ووعى الخطاب النبوي الشريف، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل يا رسول الله: وما الوهن؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت” 1رواه الإمامان أحمد وأبو داود واللفظ له..
وقد تحققت النبوءة الشريفة في واقع الأمة مرات ومرات، تارة بالهجمات الصليبية وأخرى بغزو التتار وثالثة بسقوط الأندلس، واللائحة تطول، ولها اليوم في العصر الحديث صور وتجليات أعمق حيث تكالبت قوى الشر مجتمعة على النيل من حوزة الإسلام وضرب ما تبقى من شوكة المسلمين، والاستلاء على أراضيهم، ونهب خيراتهم، وانتهت بتقديم الأرض المقدسة؛ أرض الإسراء ومنطلق المعراج لقمة سائغة للقطاء بني صهيون بوعد بلفور المقيت.
لم تغن كثرة المسلمين وامتداد ملكهم عنهم شيئا؛ كثرة “لا قيمة لها والسبب في ذلك هو عدم القيام بما أوجب الله عز وجل على المسلمين من إظهار الدين، فتغلب عليهم الأعداء، وأصاب المسلمين من أعدائهم الذل بعد أن كان الكفار يهابون المسلمين، وهذا الحديث منطبق تماماً على هذا الزمان، والمسلمون اليوم عددهم كثير جداً، ولكنهم مشتغلون بالدنيا، وحريصون على الدنيا، وخائفون من الموت، فصاروا يخافون من أعدائهم، وأعداؤهم لا يخافون منهم” 2.
أخذت همم الغيورين في كل لحظة تهفو لرؤية الأمة تنهض، وتستفيق من سبات القعود والخنوع، لتستشرف زمن الفتوة والقوة، وتستعيد مشعل القيادة والريادة.
وكأنا بطوفان الأقصى قد جاء على موعد مدروس وقدر محسوم ليقلب موازين القوة، ويكشف حِكم الأقدار في التدبير، وما يمكن للجسم الإسلامي أن يحققه متى ربط العزم، ورفع الهمة، وصدق الوجهة وأعدّ العدة وأحسن التخطيط واستوى عنده الموت والحياة ما دامت الطلبة غالية.
سعد أحرار الأمة في اليوم السابع من أكتوبر من عام 2023 بذلك التسلل للمقاومين الأحرار للمستوطنات المغتصبة، وذاك الهجوم البري والبحري والجوي للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة العزة على العدو اللقيط الذي عاث في الأرض المقدسة فسادا بترويعه الآمنين وقتله المدنيين وانتهاكه الأعراض وحرمات البلاد والعباد.
“طوفان الأقصى”؛ أنعم به من مسمى يحيل إلى الوسيلة والهدف، طوفان هادم هازم لمن ينتهك حرمات الأقصى، بيت الله الحرام وأولى القبلتين، طوفان يغرق كل ناعق ادعى الأحقية في حرم الله تعالى ظلما وعَدْوا، طوفان ماحق لكل متجبر زاده طغيانا مساندة قوى الشر له، وانبطاح المنبطحين من الحكام وتطبيع المطبعين.
طوفان الأقصى، ونهاية أسطورة الجيش الذي لا يقهر
عمل الاحتلال الإسرائيلي لعقود من الزمن على بث الخوف من جيشه في القلوب، ومن خلال دعاية كاذبة وادعاء متحايل روج لقوته التي لا تقهر وقبته الحديدية التي لا تخترق.
والحال أن طوفان الأقصى قد أظهر بالدليل الواضح فساد هذا الادعاء؛ إذ صورت لنا كاميرات المقاومة مدى العنت الذي واجهته دولة الكيان الغاصب أمام سواعد المقاومة وقذائف الياسين، كما صورت عجز الكيان، رغم تعنته، عن اقتحام الأنفاق و”دك” المقاومة، مما يجعلنا أمام جيش مهزوم أو قابل للهزيمة، بمقابل مقاومة واعية بالقضية، قادرة على التخطيط والتنويع في أشكال التدافع والقدرة على ضرب العمق المحصن.
طوفان الأقصى وقوة الإعلام
عانت المقاومة الفلسطينية لزمن من تعتيم إعلامي كبير، بمقابل الترويج لمظلومية المحتل، لكن عناية المقاومة بتوثيق هجوماتها، وضرب العدو من نقطة الصفر وحسن استعمال ذخائرها وبطريقة منسجمة لم تطح بأسطورة الجيش الذي لا يقهر فحسب، بل أسهمت في رفع منسوب الدعم الشعبي للمقاومة وضخ الثقة في عدالة القضية، كما أن عنايتها بتسليط الضوء على ظلم المحتل وكشف حقيقة العدو للعالم وطغيانه وجبروته، ما يبرر، بفضل الله تعالى، الدعم الشعبي العالمي للقضية.
علمنا طوفان الأقصى أن الإعلام لم يعد سلطة رابعة، بل يسير جنبا إلى جنب الدبابة والرشاش والبندقية، ليلتقط الصورة حية وصادقة للمتلقي، ويفتح الباب على مصراعيه أمام ناظريه ليصطف مع أهل الحقّ وليساند القضية الأعدل.
كما أطلعنا طوفان الأقصى على قوة المقاومة الإلكترونية والدعاية السبرانية في دحض المحتل وكشف زيفه والتي انخرطت فيها جموع الشعوب من المسلمين وغيرهم.
طوفان الأقصى، وزيف العالم المتمدن
كشف طوفان الأقصى زيف سمفونية الحرية وحقوق الإنسان وشعارات الديمقراطية كما يضرب على وترها الغرب المتمدن الذي وقف مكتوف اليدين أمام تغول العدو الصهيوني واستعلائه على القوانين الدولية من خلال حرب الإبادة الجماعية والتجويع للمدنيين وتدميره لمقومات الحياة في بلاد الإسراء، وتعديه على المستضعفين من الرجال والنساء والولدان.
إن طوفان الأقصى كشف عنصرية النظام العالمي الجديد وسياسة الميز التي يسلكها والتطفيف والكيل بمكيالين.
طوفان الأقصى، وملامح الإنسانية في الحروب
إذا كانت المعارك تحسم بالسلاح ومدى قوة المتقاتلين على مستوى العدد والعدة، فإن طوفان الأقصى قد حسم الحرب منذ البداية لصالح أهل الحق المحتلين منذ عقود، على مستوى التطور الحاصل في العدة المصنوعة بيقينهم وقوة تصديقهم وعلو غايتهم وإقدامهم المنقطع النظير، وما محاربتهم من نقطة الصفر إلا دليل على يقينهم الراسخ في نصر الله تعالى ومدده، ناهيك عن غلبة القيم التي يتبنونها في معاملة الجريح والأسير.
استوقفتنا مشاهد “الأسر المتفرد” التي تدفع الأسير إلى محبة آسره والتودد إليه والاعتراف بفضله، بمقابل عُنجُهية المحتل المختل الذي يمنع الزاد والمدد والإسعاف عن الجرحى ويعذب الأسرى، ويهدم المساجد والكنائس والمستشفيات ودور الإيواء على الأطفال والنساء والشيوخ، ويمنع وصول طواقم الإسعاف لمن هم تحت الركام، ويتعمد قتل الكوادر الإعلامية والتعليمية والصحية، ويدمر الدور السكنية والمرافق الحيوية لاجتثاث الحياة من الضفة والقطاع، وحمل الساكنة على النزوح القسري، ولائحة إجرامه تطول وتطول.
طوفان الأقصى، وحياة الشعوب
شهد العالم هبة جماعية عارمة مع طوفان الأقصى، أثرت في معتقدات الناس، فأضحينا نرى رأي العين عموم المساندين للقضية رغم التضييق والتطويق، هبات في الجامعات العربية والغربية، وفي الشوارع والساحات لم تمنع سيلها الجارف خراطيم المياه ولا عصي الشرطة ولا كلابها، وكأن العقول التي طال تضليلها استفاقت، وأصوات الشعوب التي طال خنقها أخذت تصدح في كل المجامع والمنتديات بحق أهل الحق، وبعدالة قضيتهم وبأن جرثومة الصهيونية آن أوان اجتثاثها من الوجود.
كما أن عدد المسيرات والوقفات الكبير عبر جغرافية العالم يحيل على يقظة شعبية عارمة مباركة، فتكون بذلك القضية قد تحولت من أروقة السياسة المتحيزة إلى فضاءات الشعوب الرحبة.
طوفان الأقصى وخيبة المطبعين
الانخراط الكبير للشعوب العربية في عمل المقاومة ولو في حدود جغرافية بلدانهم، أظهرت فشل جهود التطبيع، ولئن حاولت الحكومات التطبيع مع الكيان تحت مبررات واهية لا تخدم في شيء مصلحة الشعوب، كما أكدت بما لا يدع مجالا للشك أن البون شاسع بين قرارات الحكومات وإرادات الشعوب المؤمنة بقضاياها المصيرية والتواقة إلى الانعتاق والتحرر.
طوفان الأقصى، ووحدة الأمة
الاصطفاف خلف القضية العادلة المتمثلة في دحض المحتل واسترجاع المقدسات والدفاع عن الأقصى والقدس المبارك، يمكن أن تكون نقطة الانطلاق في هبة جماعية تفتل في حبل وحدة الأمة، كما يمكن لهذه الهبة المباركة أن تتجاوز الحدود الفلسطينية لتشمل بلاد المسلمين سنة وشيعة بعيدا عن الانتماء الجغرافي، والتحيز المذهبي.
وإن نهوض الجسم العلمائي من أجل التنديد والدعوة لرص الصفوف في مواجهة المحتل قوى الانتماء وزاد أعداد المقاومين للعدو ويمكن أن يشكل نواة صلبة لقوة تدفع الوهن العام عن الأمة.
ختاما، إن طوفان الأقصى، سدد الله رمي مقاوميه وسلمهم، ليحيلنا إلى دروس فاصلة في مثل هذه الظروف العاصفة من حياة الأمة؛ حيث يتغلب الحق على الباطل، ويعلو صوت الحرية بعد صمت وخنوع، وتنتصر إرادة الشعوب على استبداد الأنظمة، وإنه ليحمل في ثناياه بوادر انعتاق الأمة، وبواكير تحررها من قيود الاحتلال وهوانها على أعدائها رغم بشاعة المشاهد وسيول الدماء النازفة، وإن النصر لآت لا محالة بفضل الله القوي العزيز، مبشرا بغد مشرق لأمتنا تجتمع فيه على كلمة سواء، نصر يعز الله به أولياءه، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.