تقديم
تعتبر ظاهرة التشرذم والانشقاقات والصراعات من أهم مظاهر أزمة الحركة النقابية المغربية، فقد بدأت منقسمة على نفسها منذ اليوم الأول وهي اليوم أشد انقساما، فالإطارات النقابية متعددة داخل القطاع الواحد (التعليم نموذجا) وأغلبها تأسس بناءا على رغبة حزبية أو شخصية ضيقة، ليتوالى تأسيس النقابات الحزبية أو العمل على تحزب ما لم يتحزب منها. وقد اعتمدت في سبيل تحقيق ذلك كل الوسائل والأساليب الانقلابية المتسمة بالمعارك واحتلال المقرات واعتماد العنف والاستعانة بالمنحرفين والاتهام بالفساد المالي والأخلاقي ورفع الدعاوى أمام المحاكم.
1- الخلاف الأول
يوم الأحد 20 مارس 1955، تأسست أول مركزية نقابية مغربية “الإتحاد المغربي للشغل”، بمنزل رئيس اللجنة التحضيرية الطيب بن بوعزة، وبحضور 57 مناضلا نقابيا مغربيا من الذين سبق لهم أن نشطوا في فروع المركزيات النقابية الفرنسية التي كانت موجودة في المغرب، حيت صوت المؤتمرون على أعضاء اللجنة الإدارية، ثم أعضاء المكتب الوطني. فانتخب الطيب بن بوعزة أمينا عاما والمحجوب بن الصديق نائبا له، وقد اعتبر الأمين العام هذا اليوم “صفحة مجيدة في تاريخ الحركة النقابية” 1 .
غير أن الواقع كان لم يكن كذلك، فقد روى محمد الصديق وهو من مؤسسي للاتحاد المغربي للشغل وعضو في أول مكتب وطني “أن المحجوب بن الصديق انتقد قرار اللجنة الإدارية وأكد أحقيته بمنصب الكاتب العام بدعوى علاقاته الخارجية، فاضطرت اللجنة الإدارية إلى عرض الأمر على المؤتمرين الذين زكوا الطيب بن بوعزة من جديد في منصب الأمين العام بأغلبية ساحقة” 2 . فعمد المحجوب بن الصديق إلى تغيير النتيجة بعد تكليفه بإرسال التقرير إلى وكالة الأخبار برفقة محمد الصديق الذي يضيف قائلا “لكن المفاجأة كانت عظمى ونزل الخبر كالصاعقة حينما نشرت وكالات الأخبار والصحافة الدولية في اليوم الموالي الخبر الذي ورد فيه أن المحجوب بن الصديق أمين عام عوض الطيب بن بوعزة. لقد عم القلق والغضب أوساط النقابيين الذين قرروا ما قرروه في جو حر وديمقراطي” 3 . وبعد الضجة القوية التي نتجت عما اعتبر تزويرا لجأ المحجوب إلى “أسلوب المساومة والشانطاج فهدد بفضح المؤتمرين لدى سلطات الحماية إن لم يغلقوا ملف الأمانة العامة” 4 .
في هذا اليوم التاريخي الذي اعتبره الطيب بن بوعزة “صفحة مجيدة في تاريخ الحركة النقابية المغربية” وفي هذه الأجواء وضدا على رغبة المؤتمرين، توافقت القيادة السياسية (اليسارية) على تنصيب المحجوب بن الصديق على عرش أول نقابة في تاريخ المغرب فماذا سيفعل الخلف؟ بعد هذا الذي فعله السلف؟.
2- الانشقاق الأول للاتحاد المغربي للشغل وتأسيس الإتحاد العام للشغالين بالمغرب
بعد مرور خمس سنوات على تأسيس الاتحاد المغربي للشغل، و على إثر انشقاق التيار اليساري عن حزب الاستقلال وتأسيسه لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وردا على انحياز النقابة للحزب الجديد بل المساهمة الفعالة في تأسيسه. بدأت القيادة الاستقلالية بزعامة محمد الدويري الاتصال ببعض العناصر النقابية الغاضبة على قيادتها بهدف تأسيس إطار نقابي بديل اختير له اسم الاتحاد العام للشغالين بالمغرب وذلك يوم 20 مارس 1960.
هذا الحدث كان له الأثر الأكبر على الاتحاد المغربي للشغل الذي قابله بمعارضة كبيرة ترجمها بالدعوة إلى إضراب عام يوم 25 مارس 1960 ضد ما أسماه بالنقابات الصفراء، حيت برزت على الساحة النقابية مباشرة بعد ذلك عدة تنظيمات نقابية؛ وبهذا يكون حزب الاستقلال قد دشن تقليدا جديدا في الحياة النقابية المغربية وهو ربط النقابة بالحزب بشكل مباشر.
الاتحاد العام للشغالين بالمغرب سوف لن يتعرض لانشقاقات كبيرة لكنه سيعرف انقلابين متتاليين على كرسي الكاتب العام.
* الانقلاب الأول: تزامن مع متابعة عبد الرزاق أفيلال الكاتب العام للاتحاد العام للشغالين بالمغرب من طرف القضاء المغربي حول مشروع الحسن الثاني بصفته رئيسا لجماعة عين السبع عام 1983؛ فقد تحالف حميد شباط (عمدة مدينة فاس) مع محمد بن جلون الأندلسي (نائب الكاتب العام) والعربي القباج وتيتنا علوي، ضمن ما أسموه بالحركة التصحيحية، للإطاحة بعبد الرزاق أفيلال من على عرش الكتابة العامة للاتحاد الذي تربع عليه مدة تجاوزت الأربعين سنة؛ حيت اعتبروا أن مرحلة تسييره للاتحاد العام للشغالين تميزت: بالتسلط والفردية في التسيير، من خلال “فبركة” الأجهزة وتعيين مكاتب على المقاس والمزاجية في القرارات والعشوائية والفساد في التدبير المالي للنقابة التي أصبحت في نظرهم ضيعة له ولعائلته؛ لم يقف الأمر عند هذا الحد فقد صرح حميد شباط الكاتب العام الحالي للاتحاد العام للشغالين بالمغرب في حوار مطول مع جريدة المشعل: “أن عبد الرزاق أفيلال كان مخبرا لإدريس البصري وعندما كنا نجالسه لاتخاذ قرار إضراب نقابي كان يتوصل بمكالمة هاتفية من طرف وزارة الداخلية… في وضعيته الصحية والعقلية الحالية لا نرى أية فائدة في إبقائه على رأس النقابة…. لهذا أكرر نصيحتي للسيد أفيلال بأن يعرض نفسه على طبيب نفساني لعلاجه” 5 .
أما محمد بن جلون الأندلسي الذي تولى الكتابة العامة في المؤتمر الاستثنائي للنقابة يوم 29 يناير 2006، فقد صرح لنفس الجريدة: “نعتبر عبد الرزاق أفيلال جزء من الفساد العام الموجود في المغرب، فهو يطرد من يشاء ويجلب إليه من يشاء، والمؤتمرات التي يعقدها هي عبارة عن مواسم سيدي أفيلال” 6 .
لائحة الاتهامات الموجهة لأفيلال لن تقف عند هذا الحد بل إن خديجة الزومي عضو المكتب التنفيذي للاتحاد العام أضافت أن: “عبد الرزاق أفيلال كانت له علاقة مشبوهة ببعض النساء، نجد مثلا أن السيدة كنزة الغالي كانت تقوم بأسفار خاصة وباستمرار على حساب مالية الاتحاد العام للشغالين بالمغرب، أما السيدة صباح فقد أقامت مشاريع خاصة من صندوق النقابة، هذه باختصار بعض بؤر الفساد التي طبعت عهد أفيلال” 7 .
* الانقلاب الثاني: تزعمه حميد شباط (نائب الكاتب العام) للإطاحة بمحمد بن جلون الأندلسي الذي قضى ثلاث سنوات (فقط) كاتبا عاما للاتحاد العام للشغالين بالمغرب، وقد كان يدفع في اتجاه تأجيل المؤتمر لأنه كان يعرف أنه أكل يوم أكل الثور الأبيض. نفس السيناريو سيتكرر هذه المرة والأشخاص الذين ساندوه في الانقلاب الأول هم الذين سينقلبون عليه، وسيرفعون في وجهه كما رفعا هو في وجه سلفه لائحة من الاتهامات: بالفساد وسوء التدبير والرغبة في الزعامة. فقد صرح حميد شباط الذي أصبح كاتبا عاما للاتحاد العام للشغالين بالمغرب في المؤتمر التاسع الذي انهي أشغاله يوم 1 فبراير 2009 لصحيفة المساء: “كان الأندلسي الوحيد داخل المنظمة الذي يستعمل وسائل غير شريفة لمحاولة تأخير المؤتمر (…) تبين أنه لم يرق لمستوى الكاتب العام (…) ولذلك غلبنا مصلحة النقابة على المصلحة الذاتية للأخ محمد بن جلون. هناك شيكين بقيمة 30 مليونا و12 مليونا مكتوب عليهما بخط يد الأندلسي أن مبلغهما مخصص لشراء سيارة مسجلة في اسمه، وقد كنا نعتقد أنها من أمواله الخاصة فإذا بها تعود إلى أموال الطبقة العاملة. وفضلا عن ذلك فقد سجلت شخصيا أن العمال والموظفين لدينا في النقابة يقتطع لهم من أجورهم دون أن يصرح بهم بن جلون في الضمان الاجتماعي. (…) الوحيد الذي يمكن أن أصنفه في خانة من هب ودب في المكتب التنفيذي هو بن جلون الأندلسي، أما بقية أعضاء المكتب فهم أطر مستواهم يفوق مستوى الأندلسي الذي اخترناه لمنصب الكاتب العام رغم أنه يعرف أنه لم يكن يحلم بهذا المنصب عن طريق المؤتمر (…) يمكنني القول إن 99 % من مسئولي الجامعات ضاقوا ذرعا بالتصرفات الانفرادية للسيد بن جلون لأنه كل عام يطرد مكتبا وينشئ مكتبا جديدا” 8 .
كما فعل مع خصمه السابق، فإن في جعبة شباط المزيد من التهم والحجج التي يبرر بها انقلابه على صاحبه فقد أضاف في تصريح لجريدة الصباح أنه: “رجل لا يتوفر على أسس صحيحة، وليس له فكر ثاقب أو مخطط للمستقبل، ولا يتوفر على النزاهة وليس نظيفا، ولم يقل أبدا للمكتب التنفيذي أنه يتوصل بدعم الدولة، ولم تكن مالية النقابة تخضع لتدبير دقيق وشفاف” 9 .
3- الانشقاق الثاني للاتحاد المغربي للشغل وتأسيس الكونفدرالية الديموقراطية للشغل
بدأ الخلاف داخل حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بين التيار النقابي بزعامة المحجوب بن الصديق، الذي كان يرى ضرورة تحييد نقابة الاتحاد المغربي للشغل عن النضال السياسي، وبين عناصر حزبية يقودها المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد اللذان كانا يعتبران النقابة وسيلة أساسية للضغط على النظام وذلك عن طريق الرفع من حدة الضغط الاجتماعي للحصول على تنازلات كبرى. غير أن العلاقة بين الجناح النقابي والجناح السياسي تأزمت بعد إلغاء إضراب 1961. الذي خلف استياءً كبيرا وسخطا واسعا؛ حيث أعلنت جامعة موظفي وعمال البريد عدم موافقتها على إلغاء الإضراب، مما سيعرض عمر بن جلون للاختطاف والتعذيب على يد من أسماهم بعناصر من الجهاز البورصوي.
بدأ التهييئ للانفصال عبر تأسيس نقابات قطاعية مستقلة عن الاتحاد المغربي للشغل، كالنقابة الوطنية للبريد والمواصلات والنقابة الوطنية للتعليم والنقابة الوطنية للفوسفاط والنقابة الوطنية للشاي والسكر والنقابة الوطنية للسككيين والنقابة الوطنية للصحة العمومية.
وبعد انشقاق الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية عن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1975. اتخذ قرار بتأسيس نقابة جديدة تكون قاعدتها الأساسية هي النقابات الوطنية التي عقدت أول ندوة من أجل التشاور وإبداء الرأي ختمت بتشكيل لجنة تحضيرية بقيادة عبد الرحمان شناف، إلى جانب الكتاب العامين للنقابات الوطنية، وأصدرت نداءا يوم 16 يوليوز 1978 تشرح فيه أسباب الانفصال ودواعي التأسيس، حيث دعت الطبقة العاملة إلى “الالتفاف حول الجنة التحضيرية من أجل قطع الطريق أمام من أسمتهم بالانتهازيين والسماسرة والمتخاذلين الذين فصلوا النضال النقابي عن النضال الوطني التحرري، مما أدى حسب رأيهم إلى عزل الطبقة العاملة وتهميشها في الساحة المغربية واضمحلال الكثير من المكاسب النقابية؛ لذلك وجب التفكير في تأسيس إطار جديد موحد وديمقراطي مفتوح لجميع العمال كيفما كان اتجاههم السياسي أو العقائدي. إطار مبني على حق الأعضاء في اختيار المسئولين وفي التقرير والتوجيه العام الذي سيسير عليه”؛ لم يكن هذا الإطار سوى الكونفدرالية الديموقراطية للشغل باعتبارها “مركزية عمالية جماهيرية تقدمية ديمقراطية مستقلة”، وقد عقدت مؤتمرها التأسيسي بمدينة الدار البيضاء يومي 25 و26 نونبر 1978 بقيادة محمد نوبير الأموي الذي سيصبح عضوا في المكتب السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 1989.
[2] جريدة الأحداث المغربية حوار مع محمد الصديق عدد 3684 بتاريخ 20 مارس 2009.\
[3] نفس المرجع أعلاه.\
[4] نفس المرجع أعلاه.\
[5] أسبوعية المشعل عدد 58 من 7 إلى 13 فبراير 2006.\
[6] نفس المرجع أعلاه.\
[7] نفس المرجع أعلاه.\
[8] جريدة المساء عدد 694 بتاريخ 15/12/2008.\
[9] جريدة الصباح عدد 2705 بتاريخ 22/12/2008.\