عادت السابع من أكتوبر هذه السنة لتذكر العالم بالحدث الملحمة، حينما تجاوز أبطال المقاومة كل السياجات الفاصلة ليمرغوا وجه الكيان الصهيوني في تراب الذل والهوان، وتعيد معها القضية الفلسطينية إلى طاولة العالم وتصبح أول ملف مطروح على طاولة كل المؤسسات الدولية والوطنية سياسيا وحقوقيا وعسكريا وإنسانيا، بعدما كيدت لها المكائد وكادت تطوى وتنسى بفعل فاعلين ومدلسين وخونة ومطبعين ومنتاسين لولا إرادة الله عبر رجال المقاومة، الذين أفشلوا كل الصفقات ومعهم أحرار العالم، بمن فيهم الشعب المغربي، الذي سجل عاما كاملا من التظاهر، وعاما من فضح جرائم الكيان الصهيوني النازي، وعاما من فضح المطبعين، وعاما من الضغط من أجل وقف التطبيع مع هذا الكيان الغاصب.
نواصل تسليط الضوء على هذا الحدث العظيم باستقاء تصريحات من فاعلين ورموز سياسية وحقوقية ومجتمعية، يحللون الحدث ويستخلصون العبر، ويقرؤون الرسائل كما ينبغي أن تقرأ تجاه كل الوقائع التي توالت وتواصلت لمدة عام كامل وألقت بظلالها على الداخل الفلسطيني وعلى العالمين العربي والإسلامي فضلا عن المجتمع الدولي.
طوفان الأقصى يحشر التطبيع “المغربي الإسرائيلي” في الزاوية
هذا الحدث المفصلي، تجاوز الشرق الأوسط بتداعياته الكبرى إقليميا ودوليا، كما يرى خالد البكاري، الأستاذ الجامعي والفاعل الحقوقي والسياسي، ولم يسلم المغرب بدوره من هذه التداعيات التي عادت بالسلب على الاتجاهات التي دافعت عن التطبيع وروجت لما يمكن أن يأتي به من مكاسب لصالح المغرب، أو التي انخرطت فيه سواء ظاهريًا أو خفيًا، بينما عادت بالإيجاب على المحور الرافض للتطبيع وعلى المحور الذي يعتبر أن قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان والتغيير في بلدان المنطقة لا تنفصل عن قضية تحرير الشعب الفلسطيني من الاحتلال، ليس فقط بالنظر إلى البعد التوسعي للكيان في الأراضي المحتلة، ولكن أيضًا في إعاقته للديمقراطية والتغيير الذي لا يخدم استراتيجيته التوسعية وهيمنته على بلدان المنطقة.
الملاحظة الأساسية التي سجلها البكاري؛ هي أن تفاعل الشعب المغربي مع الدعوات للتضامن مع الشعب الفلسطيني منذ انطلاق طوفان الأقصى كان لافتًا. وقارن هذا التفاعل بتفاعلات شعوب أخرى ليبيِّن أن الشعب المغربي كان في طليعة الشعوب التي عبرت بوضوح وبقوة، والأهم من ذلك يقول المتحدث هو “الاستمرارية” من خلال الخروج للتظاهر.
وفضلا عن منطق التضامن مع الشعب الفلسطيني، أكد الأستاذ عبد الصمد فتحي رئيس الهيئة المغربية لنصرة قضايا الأمة أن جزءا كبيرا من احتجاجات المغاربة يخص سياسات التطبيع بالمغرب وقد رفعت شعارات منددة به ودعت إلى إسقاط كل الاتفاقيات مع الكيان الصهيوني كلما كانت هناك لحظات حاسمه لمواجهة هذه الخيارات، كتلك التي أقدم عليها النظام المغربي باستقبال سفن حربية صهيونية في الموانئ المغربية والتي على إثرها نظمت مسيرة وطنية بطنجة.
ومن جانبه، الأستاذ محمد الغفري، المنسق الوطني للجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع، أكد أن الجبهة رفعت منذ تأسيسها شعاري دعم فلسطين والنضال من أجل إسقاط التطبيع، وقد استمرت منذ اليوم الأول لطوفان الأقصى يوم سبعة أكتوبر إلى اليوم، خرجت ومعها الشعب المغربي في التضامن مع الشعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية ومحور المقاومة، مؤكدا على أن هذه السنة هي سنة الصمود والمقاومة.
وبينما لفت الغفري إلى أن جميع وقفات الجبهة ووقفات فروعها الممتدة في كل مدن المغرب وجميع المسيرات التي نظمت كان من بين شعاراتها المركزية “شعار إسقاط التطبيع”؛ عبر عن فخره وفخر كل مكونات الجبهة بالحشد الشعبي المغربي الذي يحضر التظاهرات وكل الفعاليات على طيلة السنة منذ طوفان الأقصى، بما في ذلك مسيرة 06 أكتوبر الأخيرة في الرباط، معتبرا أن هذا الحضور هو جزء من الطوفان المغربي لأحرار المغرب الذين يستحقون التنويه.
الموقف الرسمي المغربي “مخجل” ولا يشرف المغاربة
حطمت الاحتجاجات في المغرب من أجل إسقاط التطبيع والتضامن مع فلسطين أرقاما قياسية ووضعها مراقبون في المرتبة الثانية عالميا، إلا أن البكاري أكد أنها “لم تؤدِّ حتى الآن إلى أن تجد آذانًا صاغية لدى صانعي القرار السياسي في المغرب، الذين لا يزالون مصرين على استئناف العلاقات الدبلوماسية بين المغرب والكيان الصهيوني”.
وأضاف البكاري يقول: “كنا نتوقع، وحتى بدون هذه التظاهرات، أن الجرائم الجماعية والتهجير القسري وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها الكيان الصهيوني ستكون دافعًا لصانع القرار السياسي في المغرب لوقف أو على الأقل تجميد العلاقات معه. لكن ما حصل هو أن مكتب الاتصال الصهيوني في المغرب لا يزال يشتغل بشكل عادي، رغم أن الخارجية الإسرائيلية دعت أحد موظفيها للعودة إلى الكيان. في المقابل، لا يزال القائم بأعمال مكتب الاتصال المغربي في الكيان الغاصب هناك، يباشر أعماله”.
وبينما اعتبر الأستاذ فتحي أن جرائم الكيان الصهيوني الإرهابي والمجرم كانت تفرض على الحاكمين في المغرب بل تعطيهم فرصة لفك الارتباط معهم بعد حرب الإبادة المستمرة؛ شدد البكاري على أن موقف الإصرار في استمرار العلاقة “مخجل جدًا وغير تاريخي، ولا يشرف المغرب الرسمي، ولا المغرب كدولة كانت دائمًا في طليعة الشعوب المنتصرة للحق الفلسطيني”.
ورغم الموضوعية التي سجل بها البكاري تعامل السطلة والذي وصفه بـ”الإيجابي في أغلب -ولا أقول في كل- المحطات التضامنية، حيث لم تسجل تدخلات أو منع في غالبية تلك المحطات”. إلا أنه سجل في المقابل “متابعة بعض النشطاء الذين دعوا إلى التضامن مع الشعب الفلسطيني ورفض التطبيع، منهم من قضى عقوبات سجنية، ومنهم من لا يزال متابعًا في حالة سراح”.
وهو الأمر نفسه الذي أكده فتحي، نائب المنسق الوطني للجبهة، حيث أكد أن الاعتقالات والمحاكمات طالت مناضلين عبروا عن موقفهم من التطبيع وتوبعوا بمحاكمات صورية وملفات مفبركة، لافتا إلى أن المغاربة حرصوا على أن يصاحبوها بتظاهرات واعتصامات أمام أبواب المحاكم للتعبير عن تضامنهم مع المعتقلين وفضح ملفات التطبيع، وذكر أن العقوبات السجنية ضدهم تراوحت بين ثلاث سنوات سجنا وسنة ونصف سجنا ولا يزال بعضهم متابعا.
أشكال الانخراط الشعبي في الحراك الداعم لـ “الطوفان”
وأبرز فتحي حجم إسهام المغاربة في تضامنهم مع طوفان الأقصى وقال إنهم “انخرطوا بكل ما أوتوا من قدرات وما كان متاحا لهم من إمكانيات”، موضحا أنهم نظموا مسيرات مليونيه وأياما وطنية عمت مدن المغربي وقراه، والمئات من التظاهرات والوقفات والمسيرات المحلية، كما أبدعوا في أشكال التضامن بتنظيم سلسلات بشرية على طول الشوارع الرئيسية أو على طول الشواطئ، وكذلك مواكب للسيارات وأخرى للدراجات تحمل الأعلام الفلسطينية وتردد الشعارات التضامنية وتجوب الشوارع والأزقة.
وقال فتحي إن المغاربة حرصوا أن تبقى القضية الفلسطينية حاضرة في كل أوقاتهم ومناسباتهم، فجعلوا صيامهم مقدسيا استحضروا فيه إخوانهم في الدعاء والقنوت، وأعيادهم مقدسية فزينوا مصلاهم بحمل الكوفية وترديد شعارات التضامن مع التكبير والتهليل والتسبيح، وفي ذكرى المولد النبوي سار المغاربة في مواكب الشموع حاملين الأعلام الفلسطينية وشعارات التضامن إلى جانب مدح الرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يغفلوا الندوات والمحاضرات والموائد مستديرة من أجل تنوير الراي العام وفضح مخططات الكيان الصهيوني مع قراءات متزنة للأحداث واستشراف المستقبل.
وذكر فتحي من أشكال النصرة؛ الفن والمسرح والغناء التي كان لها نصيب في التضامن، حيث أقيمت مسرحيات ونظِم شعر وأصدرت أغان مناصرة، وكانت جبهة الإعلام جبهة من جبهات التدافع، واستثمرت في تنظيم حملات التضامن المتنوعة، وصنع خلالها منتوج إعلامي متنوع، قادها شباب المغرب ورجاله كنحل الكتروني يجابه الذباب الإلكتروني الصهيوني.
الغفري من جهته، تحدث عن تلك الأشكال التي تميز بها المغاربة فضلا عن الوقفات والمسيرات؛ البيانات والرسائل إلى المؤسسات الدولية وإلى زعماء المقاومة ومحور المقاومة. وشدد على أن التظاهرات الاحتجاجية المتنوعة تخللها حضور أصحاب البذلة البيضاء أي الأطباء والممرضين، وأيضا تخللها حضور المحامين، وقد نظمت في عدد منها مسرحيات تعبيرية منها ما يحاكي الهجوم على المستشفيات في قطاع غزة، والهجوم على الأسر الآمنة في منازلها.
ولم تقتصر التظاهرات على الساحات العامة، بل تجاوزتها -يقول الغفري- إلى أمام القنصليات خاصة الأمريكية بالدار البيضاء، وأمام الشركات الداعمة للكيان مثل كارفور وماكدونالدز في مختلف مدن المغرب، بحيث تراوحت الأشكال الاحتجاجية بين الحث على المقاطعة والتضامن مع الشعب الفلسطيني وبين النضال من أجل إسقاط التطبيع.
تضامن المغاربة القوي مع فلسطين.. أسباب وروابط
من يتابع جحم التفاعل المغربي مع طوفان الأقصى يسأل عن السر في حجم هذا التضامن وفي استمراريته، وعن أسباب ذلك تحدث البكاري عن “الروابط العميقة” كما تحدث فتحي عن أربعة روابط، أولها ما هو عقائدي ثم ما هو تاريخي، وما هو قومي وما هو إنساني كذلك، موضحا أن القدس والمسجد الأقصى للمغاربة هو عقيدة. وفي هذا الصدد يقول البكاري إن من تقاليد الحج القديمة عند المغاربة، أنهم “كانوا يزورون المسجد الأقصى قبل التوجه إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة أو العكس، إذ كانوا يعتقدون أن الحج لا يكتمل إلا بزيارة المسجد الأقصى”.
وبينما تحدث البكاري عن حارة المغاربة في القدس وعن العائلات الفلسطينية من أصل مغربي في فلسطين والعكس أيضا في المغرب، اعتبر فتحي في الارتباط التاريخي، أن المغاربة كانوا جزءا من جيش صلاح الدين الأيوبي الذي حرر بيت المقدس من يد الصليبيين، وعلى ذلك اقتطع لهم أرضا بجوار المسجد الأقصى ليسكنوها ويحرسوا من خلالها الأقصى، وهي التي سميت بحارة المغاربة. وقد حج إليها علماء المغرب وأولياء مربون للأجيال بتلك الأرض الطاهرة إلى أن اختلط الدم المغربي بالدم الفلسطيني في القدس الشريف، ولا زالت عائلات مغربية هناك اسمها شاهد على وجودها، وأوقاف قائمة تعمل باسم المغرب شاهدة على هذا الارتباط.
أما بُعد الارتباط القومي العربي فيقول فتحي إنه حاضر عند شرائح من الشعب المغربي ويقرون به، وهو مما يفرض نخوة تستوجب النصرة والتضامن ووحده المصير، في حين أن الارتباط الإنساني يفرض على كل من له ضمير حي وذرة من الإنسانية أن يكون في صف المستضعفين والمضطهدين من الفلسطينيين ضد المجرمين الإرهابيين الصهاينة القتلة.