عدة المرأة لجيل النصر

Cover Image for عدة المرأة لجيل النصر
نشر بتاريخ

ونحن نتابع أحداث طوفان الأقصى والقصف الهمجي الذي يحدثه الاحتلال الصهيوني على مستضعفي غزة من أطفال ونساء، تترسخ في أذهاننا مشاهد ثبات وصمود المرأة الفلسطينية؛ فنراها خارجة من تحت الركام تبحث عن حجابها، أو تجدها تجمع أشلاء فلذات كبدها وهي تذكر الله وتتلو الآيات. هنا نرى أن قلب هذه الأم الثكلى، لا يهدأ ولا يسكن إلا بحضور كتاب الله فيه، تتلوه على مسامع آلامها، فيهدأ بذكر الحق سبحانه وتعالى؛ لهذا أخرج الله من صلبها رجالا أسودا تربوا في حضنها، أخذوا عنها القوة والصمود.

هي أُمٌ اختارها الله للجهاد، فتحقق فيها قوله عز وجل: وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ 1 نستنبط من قوله عز وجل أن الإعداد هو أساس مواجهة العدو، وصُلبه وقوته يطابقان درجة فزع العدو وترويعه. والمقصود برباط الخيل هو حبس الجياد في مكان آمن ليُحسن علفهم إعدادا واستعدادا للجهاد.

بينما أتدبر حكمة الله عز وجل في هاته الآية الكريمة، يتبادر في ذهني النكبة الفلسطينية عام 1987. عُرفت هاته السنوات أيضا بـ”مقاومة أطفال الحجارة”؛ حيث كان أطفال فلسطين وشبابها يقاومون الاحتلال الصهيوني وجرائمه بالحجارة، فكبُر الأطفال وأصبحوا رجالا، وتحولت الحجارة إلى صواريخ تهاجم العدو الصهيوني وتدُكُّ في نفسه الفزَعَ والذُعر.

 إنّ شجاعة وحَمِيَّة الرجال في ساحات الجهاد ضد الاحتلال الصهيوني، هما عُدة لأمهات حرصن على أن يكون هذا الولد عملهنّ الصالح. روى مسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إِذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتَفَع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له”.

أول علم نستفيده من هذا الحديث الكريم هو أن الولَدَ من عمل الإنسان؛ الولَدُ خلْقُ الله وعمل الإنسان. الإنسان مسؤول عن ذنوبه يُعاقب عليها إلا أن يتوب فيغفرَ الله له، مجازىً على حسناته إن تقبلّها الله الكريم قَبولا حسنا.

إذا استقر لدينا، والحديث دليـل قاطع، أن الذريَّة – صالحةً أو فاسدةً – هي من عمل الإنسان، لا ينفي كونُها خلقا لله كونَها عمَلاً للإنسان، فقد توجّه أمامَنَا عِظَمُ مسؤولية الإنسان عن ذريته: تصلح إن أصلحها، وتَفْسُدُ إن أساء تنشِئتها. فيترتب على هذا المنطقِ المستنير بنور الوحي ونور التوجيه النبوي منهاج المسؤولية البشرية عن صلاح الأجيال وفسادها. لا يهدي للصلاح إلا الله، لكن الهداية الإلهية يقيض الله لها بشرا يهدون. والغَوَايَةُ تضليل من شيطان جن أو شيطان إنس 2.

حرصت الأم الفلسطينية على تنشئة ولدها تنشئة صالحة، كما حرصت على إرضاعه من حليب ثديها الذي أرضعته معه طباعها ومشاعرها، خوفها وأمنها وإيمانها وأمانها. حرصها – وهي الأم القوية بالله وبمعيته عز وجل – على تعليمه معاني الرجولة الإيمانية التي لا تكتسب إلا من مجالس القرآن؛ لذلك أبت على أن لا تغشاها إلا وهو بحضنها أو يلعب بجانبها، ولا تستظهر آياته إلا وهو يُصغي ويُنصت، حتى يتشبع بلذة القرآن بين عروقه، ويستأنس بمرابطة بيت الله في مراحل عمره. 

بالله كيف يُهزمُ من شبّ على ذلك؟

هذا، ولم يثنها جهادها عن أرضها والمسجد الأقصى مسرى رسول الله ولا سلوكها إلى الله عن مسؤوليتها – كأنثى وكأم – في تكثير وإعداد نسل يحمل فِلَسْطين بين أضلعه؛ فيكون لها فداء بدمه وروحه.  

 جاء عن الإمام أحمد وأبو داود والنسائي بسند صحيح أن رسول الله قال: “تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم”، ففي أرض الجهاد ضرورة تكثير العدد وتغليب العُدة. “تصنع المؤمنات أجيالا كثيرة العدد عالية النوعية، علينا واجب تغذيتها، ورعايتها الصحية، وتعليمها، وربطها ربطا وجوديا بالقرآن وبالنموذج النبوي، ثم تعبئتها في جهاد مستمر لتبني من بعدنا مستقبل الأمة الشاهدة على الناس بالقسط” 3. وهنا يرتبط باب الجهاد بالتربية الإيمانية الإحسانية، إن كان نصيب كل أم من استعداد ورباط من أجل خَلَفٍ تتحقق فيه المعاني القرآنية، فنشهدها في ساحة القتال مع العدو ترى فيه غد الصحوة الإسلامية، فيقال: والله هؤلاء هم جُند الله.

وكلما كان حرصها على تلقين الصبر والجهاد والثبات على منوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام واليقين التام بموعود الله، تكون قد أعدّت العُدة تُرهب بها عدو الله وعدوهم.

فالنصر ليس بحاجة فقط إلى بطون تشبع وعقول تأخذ من العلوم لتكون كغثاء السيل، بل الحاجة إلى رجال مجاهدين، يحبون نبيهم وآل بيته، ويحملون كتاب الله في صدورهم  يؤدوه قولا وفعلا.  وَرَدَ في الجَامِعِ الصَّغِيرِ عن عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَدِّبُوا أَولَادَكُم على ثَلاثِ خِصَالٍ: حُبِّ نَبِيِّكُم، وَحُبِّ أَهلِ بَيتِهِ، وَقِرَاءَةِ القُرآنِ، فَإنَّ حَمَلَةَ القُرآنِ في ظِلِّ اللهِ يَومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ، مَعَ أَنبِيَائِهِ وَأَصفِيَائِهِ».

 لكل امرأة تتطلع لنصرة أمة رسول الله نقول: ماذا أعددت لذلك اليوم؟ وما هي عدتك؟ لا سبيل لك إلا أن تشمري على سواعد دواخلك، وأن ترابطي من ثغرك، ثغر أمومتك التي رفع الله بها قدرك.

 فيا رب تقبل منا وآت إخواننا في غزة نصرك الموعود إنك على كل شيء قدير.


[1] سورة الأنفال، الآية 60.
[2] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ج2، ص193.
[3] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ج2، ص 262/263.