وأما عدلُه صلى الله عليه وسلم وأمانَتُه وعفَّتُه وصِدْقُ لَهْجَته فكان صلى الله عليه وسلم آمَنَ الناس، وأعدلَ الناس، وأعفَّ الناس، وأصدقَهم لَهْجَةً منذ كان، اعترف له بذلك مُحَادُّوه 1 وعِدَاهُ.
وكان يُسَمَّى قبل نبوّته الأمين.
قال ابن إسحاق: كان يسمَّى الأمينَ بما جمَعَ اللهُ فيه من الأخلاق الصالحة.
وقال تعالى: مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينَ (التكوير، 21): أكثَرُ المفسرين على أنه محمد صلى الله عليه وسلم.
ولما اختلفت قريشٌ وتحازبت عند بناءِ الكعبة فيمَنْ يضَعُ الحجَرَ حكَّموا أول داخلٍ عليهم، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم داخل، وذلك قَبْلَ نبوته؛ فقالوا: هذا محمد الأمين قد رَضينا به.
وعن الربيع بن خُثَيْم: “كان يُتَحاكمُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية قبل الإسلام” 2 .
وقال صلى الله عليه وسلم: “واللهِ إِني لأَمِين في السماء أَمِين في الأرض” 3 .
حدثنا أبو علي الصَّدَفِي الحافظ بقراءتي عليه، حدثنا أبو الفضل بن خَيْرون، حدثنا أبو يَعْلى ابن زَوْج الحُرّة، حدثنا أبو علي السِّنْجِيُّ، حدثنا محمد بن محبوب المَرْوَزِي، حدثنا أبو عيسى الحافظ، حدثنا أبو كُرَيب، حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان عن أبي إسحاق، عن ناجِيةَ بن كعب، عن عليٍّ رضي الله عنه أَن أبا جَهْل قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنا لا نُكَذِّبُكَ، ولكن نكذِّبُ بما جئْتَ به، فأنزل الله تعالى: فإنَّهُم لا يُكَذِّبُونكَ ولكنَّ الظالمين بآيات اللهِ يَجْحَدُون (الأنعام، 33).
ورَوى غيره: لا نُكَذِّبُكَ ولا أنْتَ فينا بمُكَذَّب.
وقيل: إن الأخْنَس بن شَرِيق لقِيَ أبا جهل يوم بَدْر، فقال له: يا أَبا الحَكْمَ، ليس هنا غيري وغيرُكَ يسمَعُ كلامنا، تُخْبِرني عن محمد؛ صادِق هو أو كاذب؟ فقال أبو جهل: واللهِ إن محمداً لصادق، وما كَذَب محمدٌ قَطُّ 4 .
وسأل هِرَقْل عنه أبا سفيان فقال: هل كنتم تَتَّهِمونه بالكذب قبل أَنْ يَقُولَ ما قال؟ قال: لا 5 .
وقال النَّضْر بن الحارث لقُريش: قد كان محمد فيكم غلاماً حدَثا، أَرْضَاكم فيكم، وأَصْدقكم حديثاً، وأعظَمَكُم أمانةً حتى إذا رأَيْتُم في صُدْغَيْهِ الشَّيْب، وجاءكم بما جاءكم به قلتُم: ساحر! لا، والله، ما هو بساحر 6 .
وفي الحديث عنه: “ما لمَسَتْ يَدُه امرأة قط لا يملك رِقَّها” 7 .
وفي حديث علي في وصفه صلى الله عليه وسلم: أ“صدقُ الناس لَهْجَةً”.
وقال في الصحيح: “وَيْحَكَ! فمَنْ يعدلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ، خِبْتَ، وخَسِرْتَ إِنْ لم أعدل”.
قالت عائشة رضي الله عنها: “ما خُيِّرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في أمرين إلا اختار أَيسرهما ما لم يكن إِثْماً، فإِنْ كان إِثْماً كان أَبْعَدَ الناسِ منه”.
قال أبو العباس المبرِّد: قَسَم كِسْرى أيامَه؛ فقال: يصلحُ يَوْمُ الريح لِلنَّوم، ويومُ الغَيْمة للصيد، ويومُ المطر للشُّرْبِ واللَّهْو، ويومُ الشمس للحوائج.
قال ابنُ خالَوَيْه: ما كان أعرفَهم بسياسة دُنْياهم، يعلمون ظاهراً من الحياةِ الدنيا وهم عن الآخرةِ هم غافلون (الروم، 7)، ولكن نبيَّنا صلى الله عليه وسلم جزَّأَ نهارَه ثلاثة أجزاء 8 ، جزءاً لله، وجُزْءاً لأهله، وجزءا لنفسه، ثم جزّأَ جُزْأَه بينه وبين الناس، فكان يستعين بالخاصة على العامة، ويقول: “أَبْلِغُوا حاجةَ من لا يستطيعُ إبلاغي؛ فإنه مَنْ أَبْلَغَ حاجَةَ مَنْ لا يستطيع [إبلاغَها] آمنَهُ اللهُ يوم الفَزَعِ الأكبر”.
وعن الحَسَن كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لا يأْخُذ أحدا بقَرْفِ أحد، ولا يُصَدِّقُ أحداً على أحد 9 .
وذكر أبو جعفر الطَّبَري عن عليّ عنه صلى الله عليه وسلم: “ما همَمْتُ بشيءٍ مما كان أَهْلُ الجاهلية يعملون به غير مَرَّتين، كلُّ ذلك يحولُ اللهُ بيني وبين ما أريدُ من ذلك، ثم ما همَمْتُ بسوء حتى أكرمني اللهُ برسالته؛ قلت ليلةً لغلام كان يَرْعَى معي: لو أبصرتَ لي غَنَمي حتى أدخُلَ مكةَ فأَسْمُرَ بها كما يَسْمُرُ الشباب. فخرجتُ كذلكَ حتى جئتُ أولَ دارٍ من مكة سمعتُ عَزْفاً بالدُّفوف والمَزَامير لعُرْسِ بعضهم. فجلستُ أنظرُ، فَضُرِبَ على أُذُني فنِمْتُ، فما أيقظني إلا مَسُّ الشمس، فرجعت ولم أَقْضِ شيئاً. ثم عَرَاني* مرةً أخرى مثلُ ذلك، ثم لم أَهُمَّ بعد ذلك بسوء” 10 .
من كتاب “الشفا بتعريف حقوق المصطفى” للقاضي عياض رحمه الله.
القسم الأول، الباب الثاني، الصفحات من 108 إلى 110.
[2] عزاه السيوطي لابن سعد.\
[3] عزاه السيوطي لابن أبي شيبة في مسنده عن رافع.\
[4] البيهقي في الدلائل (2/206-207) عن الزهري.\
[5] البخاري (7، 2941) ومسلم (1773/74).\
[6] أخرجه البيهقي في الدلائل (2/201) عن ابن عباس.\
[7] أخرجه البخاري (7214) والترمذي (3306).\
[8] حديث: “أنه جزأ نهاره”: قال السيوطي: هو بعض حديث هند بن أبي هالة.\
[9] أخرجه أبو داود في المراسيل (514).\
[10] البزار (2403 – كشف) وذكره الهيثمي في المجمع (8/226) وقال: “.. ورجاله ثقات”. وانظر: البيهقي في الدلائل (2/33). (* عراني: غشيني).\