مقدمـة
في هذا المقال حاولت أن أقف على حدود ثقافتين، لأحدث نوعا من الإبداع الذي يمنح للقارئ الكريم شيئا من المتعة، انطلاقا من قول القائل: “على حدود ثقافتين يكون الإبداع”.
إن الزمن يتسابق أمامنا لينتقل بالبشرية من طور إلى طور، ومن مرحلة إلى مرحلة، ومن عصر إلى عصر. فقد تطور المجتمع عبر التاريخ من مجتمع فلاحي إلى مجتمع صناعي، ثم تقني ثم معرفي ليصل اليوم إلى مجتمع فنّي إبداعي روحه الإتقان والفنّ. وقد غشي هذا الفنُّ جميع المجالات والميادين. وهو عصر لم يأت بجديد، لكنه أدخل على العصور السابقة إبداعا. أدخله على الفلاحة وعلى الصناعة وعلى التجارة وعلى التقنية وعلى المعرفة. حتى أصبح الشعار: “إذا لم تبدع لتُمتع فأنت لست هناك”. وإذا نظرنا إلى المائة وخمسين سنة الماضية نجد أن هذه الفترة التاريخية من عمر البشرية عبارة عن مسرحية من ثلاثة فصول:
الفصل الأول: عصر الصناعة، حركت فيه الاقتصادَ المصانعُ الضخمة التي كانت تعتمد على القوة البدنية والجلد والقدرة على التحمل. والبطل في هذا الفصل كان هو عامل الإنتاج الضخم.
الفصل الثاني: عصر المعلومات، تضاءلت فيه أهمية عامل الإنتاج الضخم، بينما حركت اقتصادياتِ العالم المتقدم وأمدته بالدعم المعلوماتُ التي كانت تعتمد على البراعة والتميز في التفكير. والبطل في هذا الفصل كان هو عامل المعرفة.
الفصل الثالث: مع ازدياد الغنى تكدسا في يد الأشخاص، ومع ازدياد التقدم التكنولوجي قوة وفعالية، ومع ازدياد العولمة صلة وارتباطا، كانت هذه الأمور الثلاثة كافية لتكتسب قوة دافعة مشتركة نحو عصر جديد هو عصر الإبداع. والذي أصبح يعتمد على الإتقان والجمالية. أما أبطال هذا الفصل فهم المبدعون أهل الفنّ وأصحاب الحسّ الجمالي.
والمقصود بالإبداع؛ إضفاء لمسات فنية وجمالية على الأشياء والأفكار والأقوال والأفعال والسلوك، تبعث على الإعجاب والإغراء والتعاطف والقبول والتأثير والجاذبية. ففي أمريكا مثلا تعتبر الطائفة المبدعة أعلى درجة من الطائفة المتقنة للمعلوميات. إذْ بعدما كان الناس في الماضي يسعون إلى تحقيق الثروة بالمال، هذه الثروة تبدو اليوم أقل إغراء. أما الثروة الحقيقية والجديدة اليوم فهو السعي وراء البحث عن المعنى. البحث عن العمل الذي يدخل على الإنسان السعادة الروحية. بحيث لا تقدر عليه لا الفلاحة ولا الصناعة ولا التقنية ولا المعرفة. عمل يُشبع فينا الحاجات الجمالية والعاطفية والروحية.
الحواسّ الست
بين يدي كتاب بعنوان: “عقل جديد كامل” للكاتب “دانيال اتش بينك” يقول فيه أنه بحث عن هذا العمل الذي يشبع الحاجات الروحية خلال أعوام، وبعد جهد وصل إلى الإجابة. وقد لخصها في ست قدرات محددة يقوم عليها الفكر الفني واللمسة الفنية. وأطلق عليها: “الحواس الستّ”. وهي التصميم، والقصة، والسيمفونية، والتعاطف، واللعب، والمعنى. وسوف ألخص ما جاء عنها من كلام في الكتاب بشيء من التصرف.
1- التصميم: ويقصد به أن نؤدي أي عمل في حياتنا أكثر من مجرد وظيفة، نؤديه في قالب جميل وصيغة غير مألوفة، وبطريقة جذابة عاطفيا. كما أوضح ذلك “جون هكسيت” وهو متخصص في مجال التصميم بقوله: “يمكن تعريف التصميم في جوهره؛ بأنه النزعة الإنسانية الفطرية لصياغة وتشكيل بيئتنا، بطرق غير مسبوقة في الطبيعة، لتلبية احتياجاتنا وإعطاء معنى لحياتنا”. بمعنى أن التصميم مزيج من المنفعة والمعنى. فمثلا الذي يكتب مقالا يتحرى دائما أن يجد القارئ السهولة في قراءته وفهمه، وتلك هي المنفعة. لكن لتحقيق الفاعلية القصوى يتعين عليه أن يُمرّر بين السطور أفكارا وعواطف لا تستطيع الكلمات نقلها. وذلك هو المعنى. في مجال الأشياء نجد مصمم الأثاث مثلا، عندما يصنع مائدة يبحث في البداية عن المنفعة التي تعطي لمائدته قيمة، بأن تكون صالحة للاستعمال، ثم بعد ذلك يبحث عن المعنى الذي يعطي لها جاذبية بأن تُدخل على المكان الزينة والجمال. يقول “باولا أنتونيلي” مسؤول قسم التصميم والهندسة: “التصميم الجيد هو سلوك مجدد يجمع بين التكنولوجيا والعلم المعرفي والحاجة الإنسانية والجمال، لخلق شيء لم يكن العالم يعرف أنه كان موجودا”. لقد أصبح التصميم بمعناه الجوهري -المنفعة المعززة بالمعنى- مهارة لازمة للراحة النفسية والنجاح المهني لثلاثة أسباب:
1- للوفرة المادية أصبح متاحا.
2- ولتحقيق التميّز أصبح ضروريا.
3- ولقدرتنا على استخدامه أصبح حافزا على تحقيق الغاية الأسمى، وهي: تغيير العالم.
فبوسع التصميم إن أحسنّا استخدامه وتوسيع مجاله، أن يفعل أكثر من مجرد تحسين أمورنا الشخصية، من ألبسة وبيوت وآلات وأشياء أخرى، بوسعه أن يحسّن كذلك أمكنة اجتماعاتنا، ومستشفياتنا، وإداراتنا، ومدارسنا، ومجالسنا، وحتى مناظر حدائقنا ووجه مدننا.
2- القصة: في تعاملنا بالمعلومات والبيانات لم يعد كافيا تقديم الحجج الفعالة لدحض المخالف. بل نحن في حاجة إلى صياغة قصص وحكايات جذابة، نعتبرها جزءا من جوهر الإقناع والتواصل والحوار. لأن القصة مكملة للتجربة الإنسانية شأنها في ذلك شأن التصميم. يحكي لنا التاريخ كيف كان أجدادنا عندما يعودون إلى منازلهم من العمل، فيجلسون حول سراج يضيء لهم المكان ثم يبدؤون في سرد القصص ويتبادلونها فيما بينهم، فيمنحهم ذلك المتعة والتواصل والمعنى. يسعون بهذه القصص لفهم التاريخ والحياة والعالم. وكانت قصص الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام تأخذ الحيز الأكبر منها. يقول “روجرسي شانك” وهو عالم معرفي: “البشر ليسوا مهيئين لفهم المنطق، وإنما لفهم القصص”. فعندما تصبح المعلومات متاحة للجميع وبشكل كبير وفي وقت سريع تقل قيمتها. وحتى تكتسب أهمية أكبر ينبغي وضعها في سياق قصصي وتقديمها مع أثر عاطفي، وبهذه الطريقة تكون مقبولة ومقنعة.
3- السيمفونية: التجميع بدل التجزيء والتخصص، والدمج أكثر من التحليل. السيمفونية هي القدرة على رؤية المجالات غير المرتبطة ظاهريا. وعلى ابتكار شيء جديد بتجميع عناصر لم يكن أحد يتصور تجميعها. الفكر السيمفوني هو القدرة اللازمة والمميزة للمُلحّن على تجميع مجموعة من النغمات والآلات والعازفين لإنتاج صوت موحد يمتع الجميع في النهاية. فالذي يملك الفكر السيمفوني لا تشغله رؤية الشجرة عن رؤية الغابة ككل. ولا رؤية عمل الفرد عن رؤية عمل الجماعة ككل. ولا رؤية عمل عيب واحد لإنسان عن رؤية أعماله ككل. ومن أفضل طرق اكتساب مهارة الفكر السيمفوني هو تعلم الرسم. فقد قال “بريان بومسلر”: “إن أهمّ ما في الرسم هو العلاقات بين الأشياء”.
4- التعاطف: إذا كان المنطق هو أحد القدرات التي تميز البشر، فإن هذا لا يكفي اليوم في عصر الإبداع. بل لا بدّ لهم من قدرات أخرى على فهم الدوافع المحركة للبشر لتكوين العلاقات والاهتمام بالآخرين. فبعدما كانت الدوافع تنحصر في ما هو فيسيولوجي من شهوة وشهية، وفي ما هو خارجي من ثواب وعقاب، أصبح اليوم الدافع الرئيسي هو ما يجد فيه الإنسان المتعة النفسية والراحة العقلية والطمأنينة القلبية والسّمو الروحي. فمثلا أن تحضر مجلسا من مجالس العلم والإيمان والذكر، تقطع إليه مسافات، وربما تفضله على أمور مهمة شخصية، وربما بعد تعب مُضن خلال نهار من العمل، فتحضره فقط لوجود حافز واحد، هو تلك المتعة من طمأنينة قلبية وراحة نفسية (طلب وجه الله تعالى). وقل مثل ذلك عن حضور مواطن الجهاد كلها. هذه أعظم الحوافز وأكبر الدوافع على الإطلاق، التي يمكن أن تحرك البشر اليوم. والتي لم يفهمها الكثير من الناس اليوم.
5- اللعب: وليس الجدية فقط، حتى وإن كانت الجدية مهمة إلاّ أنّ الإفراط فيها يمكن أن يضرّ بمهنة الإنسان وصحته وعلاقاته. فلابدّ من اللعب أيضا، فله فوائد كثيرة صحية ومهنية وتواصلية. ويدخل في اللعب: الابتسامة والمرح والمداعبة والفكاهة.
6- المعنى: وليس المادة فقط، لأن الوفرة المادية قد وفرت على أصحابها الكثير من الشقاوة والصراعات والآلام. آن الأوان لنعطي الفرصة لأنفسنا حتى تسعى وراء تحقيق رغبات أكثر أهمية. الغاية الوجودية: معرفة الله تعالى، والإشباع الروحي: الكمال، والسّمو الأخلاقي: الجمال.
هذه “الحواس الستّ” أو القدرات، ليست وليدة اليوم إنما كانت عند أسلافنا. فقد كانوا يروون القصص والحكايات، وكانوا يظهرون التعاطف، ويبتكرون التصاميم، ويعيشون المعنى والروح، ويهتمون باللعب والمرح، ويعملون العمل بشكل كلي سيمفوني.
التربية الجمالية
التربية الجمالية عنوان لفقرة في كتاب “إمامة الأمة” للإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، يقصد بها جمال النفس وطمأنينتها. والتي تتجلى في مظهرين رئيسيين: مظهر الوجه المنوّر ومظهر السلوك الخُلقي. ويعطي الإمام لهذه التربية بعدين، بعدا فرديا وهو ما اعتاد الناس أن يقرؤوه في الكتب، أو يسمعوه في المواعظ والخطب. وبعدا جماعيا قلّ عنه الكلام ويريد أن يحييه في الأمة ويجدده في المجتمع. يقول رحمه الله: “وينبغي للمجتمع الإيمانيِّ أن يكتسي بالسَّمْتِ الجميل والمظهر الكريم النظيف. لا تَرَفَ ولا زخرفة، لكن المظهرُ اللائقُ البسيطُ، الجميلُ ببساطته وبما ينِمُّ عنه من جمالٍ في الباطن” 1. ويترسخ هذا البعد الجماعي للجمال في المجتمع، وينتشر بواسطة تربية الناشئة عليه منذ نعومة أظفارهم. وذلك من خلال تربيتهم على “دوام الطهارة والنظافة، والسواك، والتطيب، والعناية بخصال الفطرة من شعر وأظفار. ويُربَّوْنَ على لُبس اللباس البسيط الأنيق بلا ترف ولا تَشَبُّه بالكفار ولا تكبر، وعلى ترك الزينة الحرام، وعلى الكلمة الطيبة، والحياء والوقار، والبِشْرِ الدائم والابتسامة المشرقة، وكلمة السلام عليكم، وتشميت العاطس، إلى سائر ما فصلته السنة النبوية من جماليات وآداب” 2. ثم يستشهد بحديث نبوي يُبرز بواسطته كيف كان الصحابة رضي الله عنهم على العهد النبوي يستحضرون هذه التربية الجمالية، التي رباهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويوصون بها، ليكون حملةُ الرسالة وأهلُ الدعوة شَامة بين الناس، فيلفتون الأنظار إلى الصورة الجميلة التي يرسمونها في الواقع بأخلاقهم وأفعالهم ومظهرهم. يقول الحديث فيما رواه أبو داود رحمه الله بسند حسن، عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: “إنكم قادمون على إخوانكم. فأصْلِحوا رِحالَكم، وأصلِحوا لباسكم حتى تكونوا شامةً بين الناس. وإنَّ الله لا يُحب الفُحْشَ ولا التَفَحُّشَ”.
خاتمة
إن البشرية اليوم مثلها مثل الإنسان، في شبابه يندفع لما يحس به من قوة ويجده من فورة، لكن عندما يكبر، يصير في آخر أيامه يبحث عن الاستقرار النفسي والإشباع الروحي، إنه يبحث عن المعنى لحياته الذي لطالما قد تغاضى عنه لانشغاله بأمور العمل والأسرة. كذلك البشرية وهي تعيش في عمرها المتقدم في هذا العصر أصبحت تبحث عن المعنى أكثر من كل شيء. فقد عاشت مراحل من حياتها الماضية كلها اندفاعا ولهفا، ما بين اكتشافات وبحوث واختراعات ونزاعات وصراعات. واليوم قد آن الأوان لتهدأ نفوسها وتستقرّ أحوالها على حياة لها معنى. ويؤكد هذه الحقيقة ازدياد عدد الداعين لهذه القيم الروحية والمعاني العاطفية. فحتى ننخرط في هذا العصر، يتوجب علينا أن نتقن استخدام القدرات الإبداعية والإمكانيات الفنية، في فعل أشياء في منتهى الجمالية، في وقت لا تستطيع المعرفة فعلها بتكلفة أرخص، ولا تستطيع التقنية فعلها بشكل أسرع. ومن هنا نطرح الحاجة إلى التربية الجمالية وضرورتها، نربي عليها أنفسنا، ونزرعها في ناشئتنا، ونكتسح بها مجتمعنا. فإن الله جميل يحب الجمال. وأن من تمام الكمال إدراك الجمال.