رأيت المبتلين فتذكرت الله تعالى، ورأيت المنعمين فتذكرت الله تعالى، وعلمت أن لله ناموسا لا يتأخر وقانونا لا يحابي غنيا ولا فقيرا.
علمت أن حقيقة العبودية تقتضي رضوخا كاملا لربنا رب العزة والجبروت والقوة والملكوت، طاعة ممزوجة بكامل الحب والرضا.
علمت أن حقيقة الإيمان تقتضي رضا وتسليما وقناعة وتعظيما وأدبا كريما مع من شرفنا لنكون عبيدا له، وأسعدنا باصطفائه لنا لنكون من المسلمين.
علمت، بما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن أمر المؤمن كله خير وليس ذلك لأحد إلا لمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له. طمأنينة ورضا وكمال نفسي لا تجده إلا عند من علم أن حقيقة الإيمان مقترنة بالابتلاء وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (الأنبياء، 35).
علمت أن الملائكة الكرام يعظمونك بما أنت أهل له سبحانك ويقدسونك ويمجدونك ويبجلونك. علمت أن منهم من منذ خلق وهو ساجد لك سبحانك، وحينما تأذن ربي باللقاء الأعظم يرفع رأسه ويقول: “ما عبدناك حق عبادتك”.
ما أشد تقصيرنا في جنابك أي رباه. ما أعظم تنكبنا عن جادتك وبعدنا عن محجتك.
ما أحرانا نقول في جنابك: “ما عبدناك حق عبادتك” وأنت سيدي أهل لكل خير، جميل أهل لكل جميل، ما عبدناك حق عبادتك ولكنك سيدي أهل التقوى وأهل المغفرة.
دلنا مولاي على تمام العبودية لك. ألهمنا الرشد وارزقنا معرفتك، وتمام التوكل عليك حتى نعلم أن لا منجى ولا ملجأ منك إلا إليك. ارزقنا تمام الأدب في حضرتك.
علمت مولاي أن من تمام الأدب في حضرتك إخلاص الوجهة لك لأنك أغنى الشركاء عن الشريك، ولمحبتك لخلقك وغيرتك عليهم لا ترضى منهم بغير كمال الإخلاص لك وتمام العفة، قال نبيك الأكرم عليه منك أعظم التسليم: “إن الله يغار والمؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله” (رواه البخاري).
علمت مولاي أنك تريد خلقك لك عبادا مطيعين خلصا: فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (فصلت، 10). أتينا سيدي مع السماوات والأرض طائعين.
علمت مولاي أنك تحب من عبادك الشكر على النعماء والصبر على الضراء، وهذا من تمام أدبهم في حضرتك. كيف يشكى الخالق إلى الخلق، وكيف لا تقابل نعمة المنعم بالشكر والحمد والثناء. قال أحد عبيدك موصيا:
وإذا اعترتك بلية فاصبر لها ** صبر الكريم فإنه بك أرحم
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما ** تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
علمت مولاي مما علمتنيه في كريم كتابك أن اليقين في عطائك وحسن الظن بك من أرفع الأدب في حضرتك، كيف لا وقد آخذت من يظنون بك الظنون، ظن السوء وظن الجاهلية وتوعدتهم: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ (الفتح، 6).
علمت مولاي أن من تمام الأدب معك الأدب مع خلقك وتعظيم حرماتهم التي جعلت الواحدة منها أعظم من حرمة الكعبة أول بيت وضعته للناس.
علمت مولاي، والكل مما علمتني، أن فضلك عظيم وجودك كريم، وكما علمتني وعلمت خلقك فاهدنا إلى العمل بما علمتنا حتى لا يبقى ما علمتنا كلاما نلوكه بالألسن والقلب منه خواء.
اهدنا سيدي..
أحبتي.. قولوا آمين.