إن البُكَاءَ هُو الشفَاء
مِنَ الجَوَى بينَ الجَوَانِح
– هذه الأزمات جعلتنا نبكي لأقل المشاهد، ولم يعد في وسعي التحمل، وصرخت كالنساء أجهش بالبكاء عطفاً وإحساساً.
اليوم بت أدرك قيمة الدمعة.
اليوم لا ألوم النساء على بكائهن.
اليوم بت أدرك قدر عاطفتهن ورقتهن، سواء من هن في غزة الميدان، ومن هن في مسيرات عبر العالم تسمع للناس صوت وآهات المكلومين في غزة.
إنهن أكثر إحساساً منا، وأكثر حضوراً وتفاعلاً وحرقةً منا نحن الرجال.
اليوم بت أدرك أن عاطفة الأمومة أقدس عاطفة وأنبل شعور وأسمى إحساس.
اليوم أدركت معنى بكاء الفقد، وبكاء الحسرة، وبكاء المحبة، وبكاء الألم، وبكاء الحزن على القريب.
اليوم أدركت معنى بكاء يعقوب على يوسف حتى ابيضت عيناه.
كان يوسف يتيم الأم، وكان يعقوب يحمل قلباً مفعماً بالمحبة، لذا لم يستطيع أن يتحمل البعد ولا الفراق.
– وكأني أقف أمام قبر ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم وهو مسجىً في كفنه، وأنظر إلى عيني الحبيب صلى الله عليه وسلم وهما تبكيان حزنا على الفراق.
“دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟ فقال: يا ابن عوف إنها رحمة، ثم أتبعها بأخرى فقال: إن العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون”.
– وكأني برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتحسس جثة عمه حمزة سيد الشهداء وهي ممثل بها، فيغضب من فعل القتلة ويتوعدهم مستنكرا الفعل الرخيص الجبان، وهذا دأب الغاصبين أينما حلوا وارتحلوا وأينما وجدوا.
ترى هل الحزن مشروعٌ؟
وهل البكاء ممنوعٌ؟
هل علينا أن نكبت مشاعرنا وعواطفنا خوف أن نظهر بمظهر المنهزم؟
هل علينا أن نحبس الدمعة ونخنق الكلمة لئلا نعير بالنساء؟
هل البكاء حكرٌ على النساء فلا يُلمن عليه؟
فما بال هاته العواطف تسبقنا، وهاته الدمعات تخنقنا، ومهما أشحنا بوجوهنا خجلاً إلا أنها تبقى تنزل ببرودتها وحرارتها وألمها ووجعها؟
إن البكاء ليس ضعفاً أو هزيمةً، ولكنه عبارة عن مشاعر ناطقة تطفو على الواجهة كلما اشتد الحدث وامتد.
أذكر فيما أذكر عندما كنت أزاول عملي خارج طنجة، وبينما أتناول وجبة الغداء في أحد المطاعم، وإذا بي يأخذني صوت الجزيرة في خبر صادم وهو استشهاد الشيخ “أحمد ياسين” بعد منصرفه من صلاة الفجر، تجمدت في مكاني، أديت للرجل ثمن الطعام الذي بقي على حاله ورجعت إلى عملي في شرود وذهول وصمت رهيب، وشيء يتفجر في داخلي، وألف كلمة وكلمة تدور في خلدي، لم أشعر بنفسي إلا وأنا جالس وحدي أقلب الحدث لأنفجر في فيضان البكاء…
لقد تربينا على أناشيد المقاومة وفلسطين المسلمة وبطولات المهندس يحيى عياش وكلمات أحمد ياسين.
وبعدها بقليل وهذه المرة في طنجة، تعاد الكرة الصهيونية لتغتال الشهيد عبد العزيز الرنتيسي وينزل الخبر علي كالصاعقة، سيطر علي الحزن حتى أشفق علينا الصديق القريب، وعدت إلى حجرتي ودفاتيري المزينة بصور المقاومة ومجلاتي…
أعود إلى التاريخ وأقف عند وفاة سيدنا “خالد بن الوليد” سيف الله المسلول، عند انتشار الخبر خرجت نساء بني مخزوم يبكين خالداً، فسمعهن عمر فقال: “على مثل خالد فالتبكِ البواكي…”.
وبكت الخنساء أخاها صخرا الدهر كله…
وفي موقف عجيب يأخذنا إليه الشاعر الجاهلي “الزير السالم أبو ليلى المهلهل” عندما قتل أخوه كليباً، وجاءه الخبروقدم إلى قبره فلازمه ليس له شغل سوى البكاء.
العجيب أن المهلهل كان رجل حرب وسكر ومجون، وهاته العواطف لا يلقي لها بالا، ولكن مقتل أخيه فجر فيه هذا الإحساس، فأصر أن يوفي أخاه حقه في البكاء، وبعد ذلك يتفرغ للثأر، حتى عيروه بذلك وقالوا: ليس له في النفير.
وكلما سكن من البكاء استدعى موهبته الشعرية في الرثاء فيزداد بكاء.
وربما استعان بمن سبقه فاستمع إلى رثاء الأخ في أخيه فيدخل في نوبكة من البكاء.
– ربما نحن الرجال هزتنا نظرة الأب المكلوم في أولاده، المفجوع في أسرته، يرمق بعينيه الدامعتين أولاده الجرحى ولا يجد لهم حيلة.
الشعور بالعجر لا يتمناه أحد، وآه من غلبة الدين وقهر الرجال.
هزني مشهد أم تحتضن وليدها وفلذة كبدها وهي تبكي دون أن تبدي انكساراً ولا اندحاراً.
أمٌّ، أبٌ، أخٌ، أختٌ، وبنتٌ، وطفلٌ، وشيخٌ.. في صور تندى لها جبين الإنسانية فكيف بقلب أخ القريب.
أمام هاته المشاهد القاسية من كيان غاصب مجرم لم يترك لي في القلب متسعا للتجلد، وفاض بما فاض من الأحاسيس ليجهش في الأخير بالبكاء كالنساء.
كيف لهذا القلب الرقيق أن يصبر ويتحمل نظرة الخراب والدمار والقتلى والجرحى والشهداء في جثثهم المتبقية، وأطرافهم المستأصلة، وأصوات بكائهم العالي ينخر المسمع ويجري المدمع.
آلة قتل صهيونية ممنهجة تعتمد الإبادة والمجازر لتحرق القلوب وتفجعها لتفر وتهرب وتترك وطنها وتاريخها التليد لأبناء اللقيطة؛ يجتثونه من أصوله ليحدثوا أصولاً مستنسخة ممسوخة بلا هوية كما مسخ أجدادهم قردة وخنازير.
لا تعجب من فعل القاتل في القتل، فهذا دأب اللقطاء والغاصبين، ولكن العجب من صمود أهل غزة ومقاومتهم.
العجب من قوة إيمانهم وصلابتهم، نعم قوم مع الله في السراء والضراء، ابتلوا فصبروا، وُضعُوا في المواجهة وكانوا طليعة الأمة في قتال بني صهيون فكانوا رجالا مجاهدين.
العجب سيدي في بكائهم وثباتهم، هو بكاء عاطفة وثبات إيمان.
آه على هذا القلب الذي يشبه قلوب الطير، يمر عليه المشهد تلو المشهد، وبدون إحساس تجد نفسك تسرقك العبرات، وتخنقك الدمعات، لتجد نفسك في آخر المطاف تبكي كطفل في صباه.
نعم سأبكي وأبكي بدون خجل، سأبكي غزة في قلبي، سأبكي غزة في شوارعها وبيوتها التي تهدمت، وسأبكي أحياءها التي ما عادت أحياء.
سأبكي فيك غزة، وشمال غزة، ودير بلح، وخان يونس، ورفح.
سأبكي فيك الشجاعية، وجباليا، والشيخ رضوان، وتل الهوى، وحي الزيتون.
سأبكي رجالك ونساءك وأطفالك وشيوخك، سأبكي ضفائر النساء ولحى الرجال.
سأبكي أرجوحة تتأرجح بلا أطفال، وملعبا بعشبه الأخضر قد تلطخ بالأحمر، ومدارس خاوية من تلامذتها ومعلميها، هم بين جريح وشهيد ومهجر.
“ابْكُوا فإنْ لَّمْ تبكُوا فتبَاكَوْا”
من التضامن مع إخوتنا أن نشاركهم همهم وحزنهم وبكاءهم، ودعاءهم وصمودهم وجهادهم.
لا تكن قاسياً أمام تلك الفواجع، لا تدر ظهرك، فأنت ترى، وهم يعيشون الحدث، يعيشون المشهد الذي أنت تأنف أن تراه، تتمنى ألا ترى، ألا تسمع، ألا تخبر بالأحداث، فتعيش عيشتك وترفك.
وهذا والله من الخذلان وقسوة القلب.
أقف هنا لأسجل إعجابي بثبات المرأة الغزاوية وشجاعتها، وهي تصرخ ويمتزج صوت صراخها بالبكاء، لتنطلق الكلمات كالرصاص في جسم الأمة النائمة المتخاذلة.
اليوم لم يعد يخجل الرجل من البكاء، هو تنفيس عن الروح، وعاطفة لا تحبس، وإنسانية في وجه عالم قد انعدمت فيه كل معاني الإنسانية، فأصبح غولا يدمر كل شيء ولا يبالي، يقتل الملايين ولا دمعة حزن تسقط من عينيه.
من ذا الذي لم يفجعه ويصقعه مشهد الولد يوسف “الأبيضاني حلو وشعره كرلي”؟
براءة الطفولة مع براءة عاطفة الأم، وصبر الأب وتماسكه، تجعل الحجر القاسي يتصدع ويبكي، ووجدت نفسي أبكي عوضا عن الأب، لأني قدرت النتيجة بينما هو منشغل بالبحث عن أمل ولو مثل خرم إبرة.
الله أكبر ما أعظمك يا أم، كم يكلفنا أن نرضيك أو نعوضك، ووالله لوزن الدنيا ذهباً لا يعدل فجيعة قلب الأم والأب على ولديهما.
وإن روح الروح أخذت روحنا إلى جنان السماوات.
وصوت البنت التي اختلط عليها الحلم بالحقيقة فتساءلت ببراءتها الفطرية: هل نحن في الحلم أم في الحقيقة؟ ليقشعر جسدي الذي يدرك زيف ونفاق العالم المتحضر.
إن إنسانية الإنسان الغربي باتت مشروخة مكشوفة عارية بعد أن التقمت من شجر الغرقد فانكشفت سوءتهم وانعدمت ضمائرهم وعواطفهم.
كانوا يوهموننا ببكائهم على الكلب الشريد والهر الهزيل والعصفور الجريح.
وصاروا يبيدون الإنسان بطفله وشيخه وذكره وأنثاه ولا ترجف لهم عين، يضعون أيديهم في يد السفاح ويدعمونه بالمال والسلاح والإعلام، ويرفضون أي صوت ينادي بالكرامة والتحرر من أفعال المغتصب والتنسيق معه.
تهاوت مزاعم الغرب في الإنسانية وحقوق الإنسان، وأضحت مؤسساتهم عنصرية انتقائية تكيل بمكاييل عنصرية أحادية.
كنت أتساءل إلى متى تظل هاته القلوب قاسية كالحجر الصلد الصلب لا يهزها الحدث الفظيع، ولكن ما زالت ضمائر الناس حية، فمن بلادة السفاح أنه أيقظ الإنسانية وصوت الحق في جماهير عريضة من شعوب الغرب بكثرة إبادته ومجازره، فاشتركنا في الخروج في المسيرات والهتاف والمواقف والبيانات وحتى في البكاء.
نعم هزتنا روح الروح من طنجة كما هزت قلوب آخرين في عواصم ومدن العالم، ورددنا جميعا بلكنة اسويدية: “تحيا فلسطينا”، وبتنا جميعا ندرك أنه لا بد من تغيير عالمي يعطي للقيم الإنسانية وزنها وقيمتها وحضورها، وأن هاته المؤسسات باتت عرقلة للإنسانية والإنسان.
لا بد من إعادة تشكيل هاته المؤسسات لتلعب دورها في دعم المظلومين والمنكوبين في العالم بأسره.
يا وائل الدحدوح صبرا
فإن بعد العسر يسرا
مَعْلشْ كل فدا فلسطين.
الآن أنا لست خجلا من تلك الدمعة التي سقطت على غزة، فغزة علمتنا، وغزة حررتنا، وغزة أيقظتنا، وغزة أعادت إنسانيتنا وعاطفتنا، أعادت فيها صلابة المقاوم، وعاطفة الإنسان.