ما زالت تلك الذكرى لصيقة بوجداني ورائحتها العطرة تسكن سويداء قلبي؛ مشهد ابنيَ البكر وهو يتلمس طريقه إلى الدنيا، ويخرج إلى نور الوجود من ظلمات رحمي، يطلق أول صيحاته الصغيرة وكأنها تهمس بين ثنايا فؤادي أن “ها أنا ذا جئت يا أماه”، فأرحب بعينيه العسليتين الملائكيتين وهما تتطلعان إلي بدهشة الحب.
أحسست آنذاك كأني انتزعت نزعا من حياتي الجافة وحملت على ناقلة للزمن إلى حياة أخرى طرية وأكثر عذوبة وبهجة.
أحسست أنني لم أعد بلا أجنحة، فقد بات لدي جناح واحد، تضاعف إلى ثلاثة مع مرور الوقت. وكان ذلك الإحساس بنبات جناح آخر يزيد من قوة ارتفاعي عن أناي الصاخبة وامتداد عنصر الأمومة الكامن فيّ.
آمنت دائما أن الأنثى بطبيعتها الأمومية مهيأة لتستقبل الأجنة وتحتضنها وتعطيها من ذات نفسها ونَفَسها، وأن الواحد الأحد أقرّ في فؤادها وقَسَماتِه القدرة على الأمومة وإن لم تنجب أبدا.
وحين يتحقق الإنجاب فقد تحققت ولادتها الأمومية وباتت مقرونة بالولادة القلبية، إن هي أحسنت واغتنمت الفرصة التي أسعدها الله بها وحمّلها مسئولية الحفاظ عليها بما حفظ المولى عز وجل.
أصبح لديّ ابنان وابنة عذبة أسميتها رحمة، لكن في قلبي هي ولادة واحدة فقط، تلك التي أخرجتني من جزئيتي إلى فسيح المحبة وسرّ الأمومة الخالد؛ وكأنها كانت مرة واحدة، تجددت مرتين أخريين..
لا غرو إذن في أن حنيني يندفع من الذكرى الأولى، يتنفس بها ومنها، وتتناسل منها الذكريات الجميلة.
أذكر كيف التقم ثديي أول مرة، وكيف بكيت حين تعذر عليه شرب حليبي، وكيف دعوت الله تعالى ورجوته ألا يحرمني رضاعته، وكيف سبحانه استجاب لي ودرّ الحليب في صدري وأعانه على رضاعته حتى استغنى تماما عن الرضّاعة والحليب الصناعيين.
أذكر أيضا حين كان يسمع صوت القرآن وهو يُتلى فيحبو حتى يبلغ مكان المسجّل ويضع أذنه عليه ويأخذ في الاستماع..
وكيف كنت أحمله على ظهري بعد أن أتقن المشي وأجوب به الدار وكأني الحصان وهو الفارس المغوار..
وكيف كان كثير المرض، تعترض صحته الرقيقة الحمى كل حين وآن، فأبيت ليالٍ عدة وأنا أحمله وأهدهده وأُناوله الدواء حينا بعد حين، وبين كل ذلك تختلط دموعي بدعائي المتضرع أن يحفظه المولى عز وجل ويشفيه ويشفي كل طفل مريض..
ويوم أخذته للمدرسة أول مرة، أتذكر كم شعرت بالبؤس عليه والحزن من أجله لأنه سيدرس في مدرسة لا تتوفر فيها أدنى مقومات التعليم؛ أقسام تبعث على الكآبة، وساحة مغبرّة، ومراحيض تبعث على الاشمئزاز، وطاقم تعليمي يحتاج إلى تعليم.. لا أنسى كيف أخذت المديرة تعالج رجلا بسيل من السباب، أتى يستفسر عن شيء يهم ابنته فغضب من الإهمال ورفع صوته عليها..
وفرحي حين التقيت بإحدى الصديقات هناك وطلبها مني أن آخذ ابني إلى مدرسة أخرى حتى لو اضطررت إلى تحويله إلى التعليم الخاص، نصحتني بناء على تجربتها الشخصية وما تعانيه ابنتها هناك. فسارعت إلى زوجي أسأله أن نحوله إلى التعليم الخاص حتى أطمئن عليه أكثر، وإن لم يكن بمقدورنا ذلك، ففعل من أجل ما ظنناه مصلحة ابننا وإن كلّفنا فوق طاقتنا المادية.
كلها ذكريات تختلج قلبي وتعمل فيه عمل الشجن..
أتذكر يوم أهدته صديقتي بذلة رسمية؛ بدا شابّا وسيما طموحا متعلّما متخلقا شجاعا رغم أنه لم يبلغ العاشرة بعد..
كان يحب بطل المسلسل التركي “وادي الذئاب” ويحب تقليده وهو يرتدي بذلته ويحمل مسدسه، ربما لهذا هو اليوم مهووس بلعبة الفري فاير (وإن كنت أمُجّها)..
صور عتيقة في الذاكرة تنهض من سباتها الآن وتعتلي منصة ليلتي وتجعلني مسرحا لأحداثها وأشجانها..
الطفل غدا شابا وسيما (وإن لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره)، وأمومتي باتت وكأنها من قرون مضت، لا تنتمي لعصر الحداثة والتكنولوجيا، عصر التيك توك والانستغرام، عصر الفري فاير والتريدينغ، عصر الانغلاق على الذات والانفتاح على كل ما يبعد عنها، عصر يطيح بالأمومة وعناصرها في دوامّة من التساؤلات تبدأ من: ماذا أفعل؟ وتنتهي: في ماذا أخطأت؟
ربما ليست الأسئلة الصحيحة التي يجب أن تُطرح، غير أني علمت أن الجواب الصحيح هو أن أدعو وأدعو وأدعو، وأسأله عز وجل وأقول بتضرع وتبتل وعزيزِ بكاءٍ: “اللهم أصلحني لأبنائي..”.
في شدة البلاء وكُربة الابتلاء يرتفع المقام ويشتد العود وتقوى العزيمة وترتفع الإرادة لتحمل الهمّ والكَلّ، وتأخذ بزمام النفس وتعالج أسقامها الدفينة، وتقابل أهواءها وعنادها وتصلّبها وتسلطها بالرفق واللين والمحبة والرحمة.
تكتوي الأمومة من لظاها، لكنها في ذات الآن تصقل جوهرها، وتحدُّ جوانبها وأطرافها، وتسلس قيادها، وتجدد ولادتها من ذاتها لذاتها، وتشكل رويدا رويدا مخاضا جديدا لولادة أعلى وأرفع وأجَلّ.
عندما أصبحت أما أدركت أن مهمتي في هذه الحياة ليست الإنجاب فقط، فتلك خاصية الإناث في كل المخلوقات، وإنما أكرمني المولى عز وجل بالأمومة لأعبده وأحقق حسن استخلافه في أرضه وفي نفسي وفي أسرتي، وأن أبني رجولة إيمانية تنهض بهمّ الأمة الإسلامية وتنتصر للمظلوم وترفع الحيف عن الإنسانية الجاهلة المُجهّلة وتخرجها من الظلمات إلى النور، وتدعوها لعبادة رب الأرباب سبحانه وتعالى جل في علاه.
وهذا لعمري مشروع ثقيل عسير، لا تقوم له كلّ أم ولا تنتبه له جميع الأسر، إنما هو عمل القلة.. وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ، وتحقق الأمومة بمعناها الحق في نفس كل امرأة أنجبت هو شكر وأي شكر.