هذه الأيام والمناسبة مناسبة عيد أضحى، “العيد الكبير” كما نسميه نحن المغاربة، كبير بما هو أحد عيدين شرعهما الله للمسلمين، كبير بما هو مناسبة للعبرة والذكرى، كبير بما هو أحد أيام الحج وبما هو يوم من أيام الله العظمى التي عاشت فيها البشرية أروع معاني التضحية والفداء والطاعة والامتثال لأمر الله، نقف وقفة للتأمل هي أشبه بصيد الخاطر من وحي المناسبة.
لسنا ندري في أي يوم من أيام التاريخ الغابر، والتاريخ عندنا يبدأ بدعوات الأنبياء عليهم السلام ليكون سعي الإنسان في الأرض موصولا بحبل السماء، يقص علينا ربنا الرحيم نبأ سيدنا إبراهيم خليل الله وابنه إسماعيل عليهما السلام، قصة هي أروع ما يكون الفداء والصبر والامتثال لأمر الله. شيخ كبير بعد أن قنط من الذرية، يكرمه الله في آخرة من العمر بولد، يكون تحفة الحياة وقرة العين وامتداد النسب والذكر في العالمين، لكن بعد العطاء يأتي البلاء والابتلاء، ابتلاء أول عندما يؤمر نبي الله بترك ابنه وأهله في واد قفر غير ذي زرع، في مكان لا حياة فيه ولا ماء، صبي صغير رضيع في أرض قاحلة مقفرة موحشة وأم مؤمنة موقنة بلا زاد ولا ماء إلا جراب تمر وسقاء، والزوج المعيل مأمور بترك كل ذلك وعدم الالتفات إليه جملة، أي بلاء وابتلاء؟؟ لكن في القلب رأفة وحنان، وعلى اللسان دعاء وصدق توجه إلى المولى الرحيم “رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ”.وحشة يبدد صمتها سؤال سيدتنا هاجر سؤالا إيمانيا مختصرا دقيقا : آالله أمرك بهذا؟ ويرد خليل الرحمن: بلى، “إذن فلن يضيعنا الله”يأتي جواب السيدة هاجر في صورة من أروع صور الإيمان والإخبات والتسليم لله تعالى.
يستجيب البر الرحيم الدعاء، فيكرم الله تعالى السيدة الموقنة المحتسبة هاجر وابنها سيدنا إسماعيل بعطائه، ويؤيدهما بفضله ويكلأهما برعايته وألطافه جزاء وفاقا، فيجري من تحتهما العيون ويجعل واديهما مهوى أفئدة الناس، فيأمنا من خوف ويطعما بعد جوع ويأنسا بعد وحشة ويرزقا من الأكوان فيشكرا ويذكرا، ثم يخلد ذكرهما في العالمين مناسك تقام فتحيى الذكرى وتخلد بها المعاني في قلوب المؤمنين من عمار بيت الله وحجاجه، سعيا بين الصفا والمروة، وطوافا، وتضلعا من ماء زمزم المعجزة.
بعد سنين يكون اللقاء وقد شب الولد، بعد أن كان فلذة كبد رطبة تمشي على الأرض، صار أملا وارثا ومستقبلا ونسبا، فيحل “البلاء المبين” كما سماه رب العالمين، أمر رباني رحماني من سابع سماء بذبح الغلام الهبة، “قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى” فقال إسماعيل: يا أبتِ اشدُد رباطي حتى لا أضطرب واكفف عنّي ثوبكَ حتى لا يتلطّخ من دمي فتراه أمّي فتحزن، وأسرع مرّ السكّين على حلقي ليكون أهون للموت عليّ. فإذا أتيت أمّي فاقرأ عليها السلام منّي. فأقبل عليه إبراهيم يقبّله ويبكي ويقول نِعمَ العونُ أنت يا بنيّ على أمر الله. فأمرّ السكّين على حلقه فلم يحكِ شيئًا وقيل انقلبت. فقال له إسماعيل مالَك؟ قال انقلبت فقال له اطعن بها طعنًا فلمّا طعن بها نَبَتْ ولم تقطع شيئًا”
هكذا كان امتثال الأب الشيخ النبي الخليل والابن النبي الحليم الذي بلغ مبلغ الرجال وصار ساعيا على أهله، ثمرة تربية مدرسة “آالله أمرك بهذا” استجابة فورية “يا أبتي افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين” أي سمو وشموخ وأي أدب رفيع في قوله يا “أبتي”، قمة البر في الخطاب لأب لم تمنعه شفقة والد وما ولد، من تصديق الرؤيا وإنفاذ الأمر الإلهي بلا تردد. ولأن جزاء الإحسان الإحسان، جاء النداء من السماء “وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ” فكان الفداء والجزاء والعطاء، والنداء الإلاهي: يا إبراهيم لما ذبحت إرادتك وشهوتك وعاطفتك وتعلقك وأحسنت الجلد وأجملت الصبر، وامتثلت وائتمرت جزيناك وأعطيناك واصطفيناك خليلا، وجعلناك أمة وإماما ودليلا، وفدينا ولدك وأجزلنا المثوبة “وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الاَخِرِينَ سَلاَمٌ عَلَىَ إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ”.
وكذلك يجزي الله كل مومن موقن محسن يذبح شهواته على مذبح الطاعة، امتثالا لأمر الله عز وجل وانقيادا وتسليما، فعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: ما من عبد ترك شيئاً لله إلا أبدله الله به ما هو خير منه من حيث لا يحتسب، ولا تهاون به عبد فأخذ من حيث لا يصلح إلا أتاه الله بما هو أشد عليه”.