نقف اليوم مع مرحلة من مراحل السيرة ألا وهي مرحله الجهاد بالسيف التي انطلقت مع أول غزوة من غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، غزوة بدر غزوة العزة والتمكين، غزوة البناء والتأسيس لإمامة المسلمين للعالم ونشر دين الله وإحقاق الحق والعدل ودحض الكفر والظلم والاستعباد، غزوة نحتفل بها ونفتخر بها ولكن مع استخلاص الدروس والعبر حتى تكون لنا معالم نهتدي بها في زمننا هذا سيرا نحو استعادة أمجادنا.
1- الجهاد
لقد أراد الله تعالى بنجاة أبي سفيان بتجارته غنيمة أكثر للمسلمين، وعملا أشرف وأكثر انسجاما مع الغاية التي ينبغي أن يستهدفها المسلم في حياته كلها؛ ألا وهي الدعوة إلى دين الله والجهاد في سبيل ذلك، وبهذا كانت غزوة بدر هي انطلاقة مشروعية الجهاد في سبيل نشر الدعوة والتمكين لها.
لذلك فإن من واجبنا أن نرفع همم من تقاعس عن أداء هذه الوظيفة، ونصل ما قطع من نموذج جهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهاد أصحابه معه وبعده، رفضا للغثائية ومعانيها، وشفاء من مرض الوهن “حب الدنيا وكراهية الموت”، ووفاء للعهد مع الله ورسوله على نصرة دينه. ذلك أن جهاد النفس وإقامتها صعودا في عقبة الإيمان هي قوام الجهاد وقاعدته وأساسه، يأتي بعدها جهاد المال والتعليم. فقد أمرنا الله أن نعد ما استطعنا من قوه للتدافع في هذه الدنيا، فالمال هو عصب الدعوة، والمال الحسن هو ما ينفق في سبيل الله تقربا منه.
أما العلم والتعليم فسلاحهما أمضى من سلاح السيف، يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله في كتاب المنهاج النبوي: “فليكن إذن ‘محو الأمية’ بالمفهوم الاقتصادي واحدا من أهدافنا حين نتحدث عن جهاد التعليم. إنما نميز بين التنوير الذي نريده لظلمتنا العامة القاتمة، الذي يحققه جهاد التعليم، وبين التنوير الاقتصادي الجزئي الذي عجز عنه ويعجز حكام الجبر” (1).
فكل خير مادي ومعنوي، وكل تحاسين للحياة اليومية والعلاقات الاجتماعية والمستوى الثقافي خير نرجوه ونسعى إليه ونتجند لبلوغه.
2- الشورى
والهدف منها الاستفادة من آراء المسلمين وخبراتهم المختلفة، في غزوة بدر استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع مرات: عند الخروج لملاقاة العير، وعند العلم بخروج قريش بجيشهم، وفي أمر تموضع جنود المسلمين وأفضل المنازل في بدر، ثم في موضوع الأسرى. وكل هذا من أجل التأسيس لمبدأ الشورى والعمل به في المواقف الحاسمة للأمة.
3- الإيمان ووحدة الصف
ويتبين جليا من خلال موقف الأنصار في غزوة بدر. فعند علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنجاة القافلة وقدوم جيش المشركين لحرب المسلمين استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه. وكان الهدف من الأمر معرفة رأي الأنصار خاصة. فقال سعد بن معاذ زعيم الأوس رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: “امض يا رسول الله فلو خضت البحر لخضناه معك، ما تخلف واحد منا”، فاستبشر النبي بقول سعد وبدأ بتنظيم الجيش. وكان سِر نصر الله المؤمنين في بدر وهم قلة؛ إيمانهم بمعونة الله وتوحدهم، ولا يكون النصر إلا بتوفير هذين الشرطين.
4- حسن التخطيط وإدارة الأزمات
فمن الأمور المهمة في التخطيط لمجابهة العدو وصد عدوانه كيفما كان عسكريا أو ثقافيا أو اقتصاديا معرفة أهدافه ومطامعه والاطلاع على خططه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقصى خبر المشركين، ويجمع المعلومات، تارة بنفسه وتارة بغيره، كما كان حريصا على مبدأ الكتمان في غزواته.
أما بالنسبة لأصحابه فينبئ عن موقفهم فعل الصحابي الجليل الحباب ابن المنذر السياسي المحنك حينما قدم المشورة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقَالَ: “يَا رَسُولَ اللّهِ فَإِنّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلِ، فَانْهَضْ بِالنّاسِ حَتّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ، فَنَنْزِلَهُ ثُمّ نُغَوّرَ [أي ندفن] مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْقُلُبِ، ثُمّ نَبْنِيَ عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً، ثُمّ نُقَاتِلَ الْقَوْمَ، فَنَشْرَبَ وَلَا يَشْرَبُونَ”.
فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأيه وأمر الجيش بالتحرك إلى الموقع الذي أشار إليه الحباب وتم بذلك نصر المؤمنين.
5- الدعاء
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يطمئن أصحابه بأن النصر لهم لدرجة أنه قال: “لكأني أنظر إلى مصارع القوم”، وأنه حدد مصارع بعضهم على الأرض، ومع ذلك فقد بقي واقفا طوال ليلة الغزوة في العريش يتضرع إلى الله باسطا يديه إلى السماء يناجي ربه ويدعوه عز وجل أن ينصره كما وعده، حتى سقط عنه رداؤه وأشفق عليه أبو بكر رضي الله عنه والتزمه قائلا: كفى يا رسول الله، إن الله منجز لك ما وعد.
إذا لماذا كل هذا الدعاء؟
لا شك أن اطمئنان النبي صلى الله عليه وسلم وإيمانه بالنصر كان تصديقا بوعد الله عز وجل، أما الاستغراق في التوسل والدعاء فهو لبيان أهميته في حياه المسلم، وأنه سبب من أسباب النصر. يقول تعالى في سورة الأنفال (الآية 9): إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّى مُمِدُّكُم بِأَلْفٍۢ مِّنَ ٱلْمَلَٰٓئِكَةِ مُرْدِفِينَ.
وحري بنا ونحن في هذه الأيام المباركة أن نقف بين يدي الله ونتضرع إليه ونكثر من ذلك، بأن يرفع عنا هذه الذلة والمهانة، ويخرجنا من هذه الظلمة القاتمة والغفلة المهلكة، ويهيء لنا أسباب النصر والعزة والكرامة. يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله “تتجدَّدُ الذكريات ولا تتجدد الإرادة.. تحل ذكرى غزوة بدر وما أدراك ما غزوة بدر، فيها قطع الله دابر الشرك، وفيها نصر الله الإسلام. ستسمعون أحبتي في المساجد وتقرأون في المجلات والصحف وتسمعون في المذياع والتلفاز الحديث الرسمي وشبه الرسمي عن غزوة بدر، فكأنها أغنية تتكرر كل سنة تقول: ناموا فإنما يكفيكم الاعتزاز بالماضي! تُنَوِّمُنا فننعس وننام. يجدد لنا الإسلام الرسمي وشبه الرسمي هذه الأيام الكريمة في تاريخ الإسلام وفي جهاد المسلمين، لكنها لا تجدد إرادتنا ولا تجدد عزمنا كي ننهض ونفعل مثل ما فعلوا، كي ننهض ونجاهد في سبيل الله. ونرفع لواءه” (2).
ختاما
ستظل غزوة بدر مفخرة وذكرى تاريخية نعتز بها نعم، ولكن لابد لنا من قومة وأوبة تحيي فينا معانيها وتجدد فينا أمل النصر والتمكين.
(1) عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، ط 1989/2، الشركة العربية للنشر والتوزيع – القاهرة، ص 394.
(2) عبد السلام ياسين، كتيب: سلامةالقلوب، ط 1998/1، مطبوعات الأفق – الدار البيضاء، ص 9-8.