فقه التمكين في فكر الإمام عبد السلام ياسين.. نظرات في الشروط والدعائم والمرتكزات

Cover Image for فقه التمكين في فكر الإمام عبد السلام ياسين.. نظرات في الشروط والدعائم والمرتكزات
نشر بتاريخ

فاتحة

 لقد تكفل الله عز وجل لأهل الدين والإيمان بالنصر ووعدهم بالتمكين في الأرض، كما توعّد جل في علاه الظالمين والمستكبرين بالهلكة والتنكيل ولو بعد حين. وجعل سبحانه وتعالى الإنسان خليفته في الأرض، وطالبه بالإحسان في عمارتها، وأوجب على المؤمنين بعد التمكين لهم إقامة مجتمع الفضيلة والعدالة والحرية، حتى ينعم جميع الناس بأمن الإسلام، وهدي الإسلام، ونور الإسلام، وعدل الإسلام، قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ [النور: 55].

أولا: مقدمة في معنى التمكين

التمكين في اللغة مصدر من الفعل “مكن” وهو بمعنى قوي واشتد، وتمكن من الشيء ظفر به وقدر عليه[1]. ويأتي مفهوم التمكين في القرآن الكريم حسب الاستخدام اللغوي للكلمة؛ فهو تارة يأتي بمعنى الملك أو السلطان كما في قوله تعالى مخبرا عن تمكين ذي القرنين: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا [الكهف: 84]، بمعنى آتيناه ملكا عظيما، ويعتبر هذا التمكين تمكينا كليا، على شاكلة التمكين لسيدنا سليمان عليه السلام. وأحيانا يأتي التمكين بمعنى المنزلة أو الحظوة، تعبيرا عن التمكين الجزئي، كما في قوله تعالى مخبرا عن تمكين سيدنا يوسف عليه السلام: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ [يوسف: 21].

وأما فقه التمكين فنعني به المعرفة الشاملة والإحاطة الكاملة بالشروط والأسباب والأهداف والمعوقات وجميع مراحل الوصول إلى التمكين، وكذلك العلم بكيفية المحافظة على التمكين وترسيخه، ويدخل في هذا المعنى فقه تنزيل الأحكام الشرعية التي تختص بإقامة دولة الإسلام وتثبيت أركانها بعد النصر والتمكين.

ثانيا: في شروط فقه التمكين

هي شروط كثيرة ومتعددة، نلخصها في أربع كليات أساسية:

1. الإيمان والعمل الصالح: ويعتبر أهم شرط للاستخلاف، وأكبر أسباب التمكين في الأرض وعماد عمرانها، فبدون الإيمان لا يستقيم العمل، وفي غياب ركن الإيمان والعمل الصالح لا حديث يستقيم عن النصر، ولا يصح التمكين ولا ينجح العمران إلا به، والآية السابقة ذكرها من سورة النور تحدد شروط الاستخلاف والتمكين في: الإيمان والعمل الصالح وتوحيد الله في العبادة وعدم الإشراك به.

ويدخل ضمن هذا الشرط الكلي؛ شرط التوبة إلى الله ودوام الاستغفار، فمن أراد التمكين فلا بد له من أن يرجع عن ذنوبه ويتوب إلى مولاه ويستغفر ربه حتى ينال من بركات السماء وخيرات الأرض بما يستقر له التمكين ويثبت، ويغير نفسه، ليستحق تغيير حاله لأن الله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

2. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، ونشر الوعي الصحيح في المجتمع من الشروط الأساسية قبل التمكين وبعد الوصول إليه، يقول الامام عبد السلام ياسين: “فلا بد ابتداء من نشر الوعي الصحيح في الأمة، وهذا شرط أساسي سواء قبل التمكين أو بعده”[2] مصداقا لقوله تعالى الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج: 41]. بل إنه يعتبر، رحمه الله، أن خدمة الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمثابة المبرر الأهم والأساس في الوجود والاستمرار والاستخلاف، قال: “في كل مبنى من مباني دولة القرآن، وفي كل معنى، وفي كل حركة، وفي كل مؤسسة يجب أن تكون خدمة الدعوة هي الرائد والمبرر للوجود”[3]. ويبقى شرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلوب بالبقاء والاستمرار قبل وأثناء وبعد التمكين، لأن “حقيقة التمكين في الأرض أن تكون الدولة والسلطان بيد رجال الدعوة الساهرين على الدين، القائمين بالقسط… الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حالة التمكين تصرف متكامل شامل بيدي القرآن والسلطان، بالترغيب والترهيب، بالتطوع والطاعة”[4].

3. التدافع مع الصبر والثبات: إنه لا يتنزل النصر على الأمة القاعدة الهاربة من الواقع، ولن تجد لسنة الله تحويلا، ولن تجد لسنة تبديلا، قال الإمام ياسين: “ما وعد الله سبحانه وتعالى بالاستخلاف والتمكين في الأرض القاعدين الهاربين مما وضعه الله عز وجل من نواميس تضبط هذا الكون الواسع، وما وضع من قوانين تحكم المجتمعات البشرية”[5]، يجمع هذه القوانين قوله تعالى وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ [البقرة: 251]، وفي موضع آخر لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج: 40]. هي دعوة صريح للاعتبار من سنن الله تعالى في الآفاق والأنفس، وهي دعوة موجهة ومشجعة ليكون جند الله وطليعته في وسط الميدان مجاهدين ومنافحين ومدافعين فعلة، بدءا بتربية النفوس أفرادا وجماعات، تربية ربانية إحسانية على منهاج رسولنا المربي المعصوم عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم.

وهذا لعمري يحتاج من جند الدعوة والدولة معا المصابرة لمواصلة المسير نحو النصر والتمكين، والتضحية بالنفس وبذل المال، والحيوية في العمل، وصدق الإرادة، والصبر على المحن والفتن والشدائد، كل ذلك وغيره يعتبر خصالا إيمانية ضرورية لمحاربة غثائية الأمم وإعادة النصر المفقود وإبرام التمكين من جديد، ويتحقق فينا موعود الله تعالى وننال السعادة وننعم بها في الدارين، يقول الإمام ياسين: “الخصال الإيمانية الإحسانية التي فقدناها. ولن نكون أهلا أن تخفق على رؤوسنا رايات النصر في الدنيا ولافتات السعادة في درجات الآخرة إن لم نستعدها. كمالات العلم، وحيوية العمل، وصدق الإرادة، والصبر على الشدائد”[6].

4. إعداد القوة والأخذ بالأسباب: تعتبر الوحدة أساس القوة، وانتشار النزاعات والقوميات واختلاف المقاصد والأهداف داخل الأمة الواحدة مدعاة للفرقة وسبيل للهزيمة، والنصر والتمكين من ذلك بعيد: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال: 46].

فالتمكين في الأرض والاستخلاف عن الله فيها إنما وُعد به المؤمنون من حيث كونهم يشكلون جماعة واحدة توحده سبحانه ولا تشرك به شيئا. هذا أولا، ثم لا بد من الأخذ بالأسباب المادية المطلوبة في أي عصر لإقامة دولة الإسلام، بتسيير وتدبير أهل الإيمان، وبقيادة الربانيين المحسنين، وذلك للحفاظ على التمكين وتثبيت أركانه. يقول الإمام ياسين: “وما التمكين إلا من الله عز وجل، لكننا ننظر في الأسباب والإمكانيات الظاهرة وهي من وضعه تعالى وخلقه وتسخيره”[7].

يأتي على رأس هذه الأسباب، الإعداد البشري[8]، فهو العنصر الأهم في التمكين؛ فمنه تتكون الأمة، ومنه الجندي، ومنه العالم، ومنه السياسي، ومنه الخليفة، وهو الذي يبني ويبتكر، وهو الذي يدافع ويجاهد، بل لا قيمة لأي عنصر من عناصر القوة إذا لم يكن العنصر البشري معدا جيدا، قال تعالى وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30]، فضل الإنسان عن باقي المخلوقات وشرفه بعمارة الأرض والاستخلاف فيها.

بعد الإعداد البشري الجيد، إعداد الإنسان القوي الأمين الذي تقوم على كتفيه مهمة إعادة هيكلة دولة الإسلام لتناسب مؤسساتها وإدارتها ونظامها وقوانينها الأهداف الإسلامية والغاية الدعوية، هناك شروط تجعل للإعداد المادي معنى في فقه التمكين. نذكر منها على سبيل القصد والاختصار:

– ضرورة الإعداد العلمي على جميع المستويات والمجالات، حتى لا نتخلف عن ركب الحضارات، ثم معه – وليس بعده – يأتي الإعداد الاقتصادي، فهو عصب الحياة، وسلاح الحرب الاقتصادية في عالم الكبار من أقوى الأسلحة، بل أشدها فتكا بالأمم قديما وحديثا. وبالموازاة وجب الإعداد العسكري، فالعالم اليوم وغدا لا يحترم إلا الأقوياء ولا وزن للضعفاء في جميع المجالات؛ في الحروب كما في الرياضة والفنون والعلوم والسياسة والاقتصاد… قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [الأنفال: 60]. كما يعتبر الإعداد الأمني من أهم الأسباب المادية في التمكين، فهو بمثابة السياج الحامي لدولة الأمة من أعداء الخارج وعملاء ومنافقي الداخل. كما لا ينبغي إغفال الإعداد الإعلامي ودوره البارز في نشر الفكر والوعي الصحيح، وتصحيح المغالطات والدفاع عن الإسلام وأهله، والمشاركة في التعبئة والبناء. وغيرها من الأسباب المادية المطلوبة أثناء التمكين ومعه وبعده.

يقول الإمام ياسين: “وهنا لا بد لدولة القرآن أن تتكلم بلغة التنمية وتتصدى لضرورات التصنيع، وحجم السوق، والتبادل، والإنتاج… جهودنا لن تتبخر بإذن الله إن دخلنا ميدان المنافسة الإنتاجية العالمية، ودخلنا سوق الغبن الرأسمالية، ولا محيد من دخولها، بروح الدعوة وحكمة الدولة وعقلها، ذلك يوم نتصنع ونتوحد ويكون لنا وزن في تلك السوق. لا قبل ذلك”[9]. لا بد لنا بعد التمكين من حصانة ذاتية مستقلة، وإرادة واختيار، وعقل، بل وعقول، ومروءة وخلق، وانضباط وبرنامج، ورجال؛ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، وعون ونصر من الله مالك الملك وخالق الخلق قبل كل شيء وإزاءه وبعده.

ثالثا: دعائم مهمة لفقه التمكين

إن الله تعالى منجز وعده لهذه الأمة بالنصر والتمكين حينما تكون أهلا لذلك، وعندما تستجمع السنن الواجبة في الصراع بين الحق والباطل، وعندما تسلم القلوب لربها تسليما كاملا، وتوقن أن ساعة الفتح ما هي إلا ثمرة جهد موفق وجهاد مسدد من المولى الكريم عماده الصبر واليقين.

يقول الإمام ياسين: “دعائم الدولة الإسلامية التي عليها تُبنى هي في نفس الوقت مُؤشرات لصلاحيتها في أداء الوظائف الهدفية والغائية التي من أجلها أسست، ومن أجلها كانت القومة أساسا”[10].

وقد حدد رحمه الله هذه الدعائم في كليات ثلاثة وهي: طاعة الله، وإرادة حزب الله، وشورى أهل الشورى. وذلك لأن التمكين والاستخلاف في الأرض يبدأ وينتهي بطاعة الله تعالى وتطبيق شرعه، بعد فهمه وفقه تنزيله بالحكمة والرفق والتدرج، ولأن من أهم مقاصد الإسلام في عمارة الأرض نشر التوحيد وإقامة العدل وتحقيق الوحدة الإنسانية، قال تعالى: إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 92].

فإذا وفينا بشروط التمكين بعد القومة، ومن ضمنها رصد وإحصاء ما يمكن إحصاؤه من الأقوياء الأمناء وتوظيفهم للاشتغال في دواليب الدولة، “كانت إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب الكل”[11]. بل ويكون هذا الحال مظهرا عاما على الدوام لإرادة جند الله، مظهرا حاضرا في كل مكان وزمان ومناسبة.

وعليه يعتبر هذا مشاركة للأمة برجالها ونسائها وأطفالها في الأمر العام، يقول الإمام ياسين: “هذان عمادان من أعمدة دولة القرآن؛ حزب الله ومعهم الكافة العامة يطيعون الله جميعا، يؤدون واجبات الصلاة والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أما العماد الآخر، وهو الجسم الذي تتجلى فيه إرادة الأمة ووحدتها واستقرارها، فهو الشورى”[12].

 إقامة الشورى يجب أن تكون على قواعد قرآنية ومبادئ السنة النبوية، وسيرا على منهاج الخلفاء الراشدين، قومة شورية عادلة فعلا، وليس ألعوبة أو مسرحية وتمثيلا. فما سقطت الخلافة الأولى ووقع الانحراف عن الحق إلا بذهاب الشورى وغياب العدل، ولا يمكن إبرام بعد نقض إلا بهما.

رابعا: مرتكزات أساسية لفقه التمكين

للحفاظ على مظاهر التمكين وتثبيت دعائمه وترسيخ أركانه والسير به في الاتجاه الصحيح نحو تحقيق مقاصده، لا بد من مرتكزات أساس نذكرها على سبيل القصد والاختصار في ما يلي:

1. فقه الواقع: وتظهر أهميته في تحديد الأهداف ووضع الخطط، ثم في ترتيب الأولويات، بل لا يمكن الوصول إلى مقاصد فقه التمكين، ولا أن نتصور إقامة دولة الإسلام وتحصينها من أعداء الدين والأمة، إلا إذا أعطينا فقه الواقع ما يستحق في جميع مراحل التمكين.

 لا بد إذن من هذه القواعد لتحصين مكاسب التمكين، يقول الإمام ياسين: “أقصد بقواعد الإسلام المرتكزات الأرضية الجغرافية السياسية، والمعوقات الاقتصادية، والحجم البشري الذي عليه بعد الله عز وجل يمكن أن تتكئ القوة الإسلامية الاقتحامية في سبيلها إلى التمكين في الأرض والاستواء في الحكم”[13].

2. فقه الأولويات: ويعتبر هو الآخر من أهم المرتكزات لفقه التمكين، وما اختيار الصحابة لسيدنا الصديق رضي الله عنه خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل دفنه، إلا من باب الأولويات. وما إصرار الخليفة الصديق بعد مبايعته على أن تكون الأولوية لبعث جيش أسامة عملا بوصية المصطفى عيه الصلاة والسلام، إلا لتحقيق مقاصد الشريعة من التمكين بالحفاظ على دولة الخلافة التي ترعى مصالح العباد الدينية والدنيوية. يقول الامام ياسين: “وما التمكين في الأرض وسيلة لغاية اجتماعية اقتصادية سياسية ثم لا شيء كما هو شأن الدولة القومية أو الإيديولوجية”[14].

قاعدة فقه الأولويات[15] هي الأساس في ترتيب أجندة المسلم المؤمن المنتصر المتمكن، ولا يمكن لعالم ولا فقيه ولا مجتهد الاستغناء عنها، بل إنها السبيل للحفاظ على الدعوة والداعي معا. كما تعتبر أنجع طريقة في كسب القلوب وتآلفها، مما يساعد على تقوية الروابط ووحدة الصف الداخلي للأمة. وإن غياب فقه الأولويات لينتج عنه الاشتغال بالجزئيات دون الكليات، مما يؤدي إلى الاختلاف وشيوع التقليد والتبعية والجهل، وهي عقبات كؤود وعراقيل جسام تعمل في صمت على هدم أركان التمكين من أساس.

والحديث عن فقه الأولويات يسوقنا حتما للتنبيه على صنوه: فقه الموازنات، ودوره في تثبيت وترسيخ مخرجات التمكين، فهو بالنسبة للمجتهد سبيل مساعد للخروج من مسائل الخلاف. بل هو معيار مركزي في الدعوة إلى الله تعالى، وهذا الفهم هو ما دفع سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله تعالى أن يعز الإسلام بعمر بن الخطاب[16]. فالسياسة الشرعية تحتاج كثيرا لفقه الموازنات، لأنه الطريق الأسلم إلى تحقيق أهداف الشريعة والوصول إلى روحها، دون تعطيل للنصوص أو إهمال للمقاصد.

3. فقه تنزيل الأحكام[17]: ونقصد به العلم الضروري الذي يساعد المجتهد على الفهم العميق للوقائع والنظر الدقيق في الحكم الشرعي، مما يساعد على حسن تطبيق الكليات الشرعية وتحقيق مقاصدها وفقه مآلاتها. وما يتطلب ذلك من أدوات معرفية تساعد المجتهد والحاكم في زمن التمكين من تطبيق الحكم الشرعي تطبيقا يحقق المقاصد والمصالح ويدرأ المفاسد. وعليه فإن مرتكز فقه التنزيل يفرض على أهل الاجتهاد أن يبحثوا عن المسالك والطرق الواقعية للكشف عن مدى تحقق المقاصد الشرعية عند تنزيل الحكم زمن التمكين وأثناءه وبعده، بشكل يعصم من الزلل الذي يقع فيه كثير ممن أخطأوا المقصد في تنزيلهم الأحكام فجلبوا المضار والمفاسد على الأمة.

خاتمة: وما النصر والتمكين إلا من عند الله سبحانه

 تعلمنا من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن غزواته المباركة على الخصوص، أن النصر والتمكين من عند الله وحده.

– في غزوة بدر: تعلمنا من تأييد الملائكة للمجاهدين في الميدان أن النصر من عند الله تعالى.

– في غزوة أحد: تعلمنا من الهزيمة أن الشهادة في سبيل الله إحدى الحسنيين وهي نصر من الله.

– في غزوة الخندق: تعلمنا من الصبر والإرادة أن الأخذ بالأسباب شرط في تنزل النصر من عند الله.

– في غزوة الحديبية: تعلمنا من السياسة أن الحكمة بدل السيف أحيانا هو تأييد ونصر من الله.

– في غزوة حنين: تعلمنا من الكثرة الغثائية أن الإيمان والعمل الصالح شرط في تنزل نصر الله.

– في غزوة العسرة: تعلمنا من الشدة والنفير في الحر أن الله يمحص المؤمنين ويفرز المنافقين لينزل النصر على الصادقين من عند الله.

– وفي فتح مكة: تعلمنا من الفتح والتمكين الأول أن النصر يبدأ باليقين في موعود الله، وأن التمكين الثاني وعد من الله، وأن الله لا يخلف الميعاد، وأنه لا غالب إلا الله، وما النصر إلا من عند الله.

لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.