فقه الطهارة (التّيمّم -1-)

Cover Image for فقه الطهارة (التّيمّم -1-)
نشر بتاريخ

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وما جعل لنا فيه من حرج، وهدانا إلى صراطه المستقيم، والصلاة والسلام على خير المرسلين، وآله وصحبه أجمعين.

جاء الإسلام بشريعة سمحة؛ فكما فيها عزائم متيسرة للصحيح القادر المعافى، فيها كذلك رخص مناسبة للعاجز الضعيف والمضطر، فأباح الشارع التيمم بديلا عن الوضوء والغسل في حال عدم وجود الماء، أو تعذّر استعماله بسبب خوف، أو مرض، أو زيادة مرض، أو تأخر برء، وأسباب أخرى، سنبينها بإذن الله في مقالنا هذا.

فما هو التيمم؟ وما دليل مشروعيته؟ وما فرائضه؟

تعريف التيمم

التَّيَمُّم لغةً: القصد والتوجه إلى الشيء، ومنه قوله تعالى وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ (البقرة، 267). أي لا تقصدوه.

أما اصطلاحاً فهو: مسح الوجه واليدين بالصعيد الطاهر، بقصد الطهارة.

مشروعيّته

بعد أن أنهى النّاظم رحمه الله تعالى الكلام عن الطّهارة بنوعيها، شرع يتكلّم عن البدل منهما إن لم يوجد ماء لهما، فالتّيمّم طهارة بدلية عن الماء يباح استعماله لخوف ضرّ أو زيادته أو تأخر برء، أو لعدم وجود ماء يكفي استعماله للطّهارة، أو انعدم مطلقاً؛ قال ابن حزم في مراتب الجماع (ص 22) “أجمعوا أن المريض الّذي يؤذيه الماء ولا يجده مع ذلك أن له التّيمّم”.

وقد نصّت الأدلة من الكتاب، والسّنّة، والإجماع على مشروعيّته.

قال الله سبحانه وتعالى: وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ۚ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (المائدة، 6).

قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ…” (رواه البخاري).

وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فُضِّلْنا علَى النَّاسِ بثَلاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنا كَصُفُوفِ المَلائِكَةِ، وجُعِلَتْ لنا الأرْضُ كُلُّها مَسْجِدًا، وجُعِلَتْ تُرْبَتُها لنا طَهُورًا، إذا لَمْ نَجِدِ الماءَ” (رواه البخاري).

فرائضه

ثم شرع الناظم رحمه الله في الكلام على فروض التّيمّم فذكر أنّها ثمانية :

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَاشِرٍ رَحِمَهُ اللهُ:

فَصْلٌ لِخَوْفِ ضُرٍّ أَوْ عَدَمِ مَا * عَوِّضْ مِنَ الطَّهَارةِ التَّيَمُّمَا

وَصَلِّ فَرْضاً وَاحِداً وَإِنْ تَصِلْ * جَنَازَةً أَوْ سُنَّةً بِهِ يَحِلّْ

وَجَازَ لِلنَّفْلِ ابْتِداً وَيَسْتَبِيحْ * الْفَرْضَ لاَ الْجُمْعَةَ حَاضِرٌ صَحِيحْ

فُرُوضُهُ مَسْحُكَ وَجْهاً وَالْيَدَيْنْ * لِلْكُوعِ وَالنِّيَّةُ أُولَى الضَّرْبَتَيْنْ

ثُمَّ الْمُوَالَاةُ صَعِيدٌ طَهُرَا * وَوَصْلُهَا بِهِ وَوَقْتٌ حَضَرَا

آخِرُهُ لِلرَّاجِ آيِسٌ فَقَطْ * أَوَّلَهُ وَالْمُتَرَدِّدُ الْوَسَطْ

الأول والثّاني: تعميم مسح الوجه ومسح اليدين إلى الكوعين، لقوله عز وجل: فلم تجدوا ماء فتيمموا، ولحديث عمّار بن ياسر رضي الله عنه، عن عبد الرحمان بن أبزى عن أبيه قال: “جاء رجل إلى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فقال: إني أجنبت فلم أُصِبِ الماء؛ فقال عمّار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر أنا وأنت؟ فأمّا أنت فلم تصلّ، وأما أنا فتمعّكت فصلّيت، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إنما كان يكفيك هكذا”، وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفّيه الأرض، ونفخ فيهما، ثمّ مسح بهما وجهه وكفّيه” (رواه البخاري).

ثالثا: النّية؛ لقوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا. قال الحافظ؛ واستدلّ بالآية على وجوب النيّة في التّيمّم لأن معنى “فتيمموا”: اقصدوا، وهو قول فقهاء الأمصار إلاّ الأوزاعيّ.

ولحديث عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إنما الأعمال بالنيّات – وفي رواية “بالنيّة” وإنّما لكلّ امرئ ما نوى” (رواه مالك).

رابعاً: الموالاة بين أجزائه، وهي فعله في نفسه، ولما فعل له، وفعله في الوقت.

خامسا: الصّعيد الطّاهر؛ لقوله تعالى فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا (المائدة، 6)، ومعنى الصعيد: وجه الأرض تراباً كان أو غيره. ولحديث أبي ذرّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “الصعيد الطيب، وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسّه جلدك، فإنّ ذلك خير لك” (رواه أبو داوود في سننه).

سادساً: وصلُ التيمّم بالصّلاة؛ أن يكون التّيمّم متّصلاً بالصّلاة لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ الآية. ولأن البدَل يقوم مقام الُمبدَل منه في الطّلب بعد دخول الوقت، ويزيد التّيمّم على الوضوء أنّه لا يصحّ فعله قبل دخول الوقت إجماعاً (الاستذكار لابن عبد البر، ٢/١٩)، وقد استدل بعضهم بحديث أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “جعلت الأرض كلّها لي ولأمتي مسجداً وطهوراً، فأينما أدركت رجلا من أمتي الصّلاة فعنده مسجده وطهوره” (مسند الإمام أحمد بن حنبل).

سابعاً: حضور الوقت ودخوله؛ للآية المتقدمة، ولفعل الصّحابة لذلك كما في حديث أبو أمامة المتقدّم معنا، قال الشوكاني في نيل الأوطار (1/ 228): وقد استدلّ بالحديث على اشتراط دخول الوقت للتّيمّم لتقييد الأمر بالتّيمّم بإدراك الصّلاة، وإدراكها لا يكون إلاّ بعد دخول الوقت قطعاً. انتهى كلامه.

ولحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: “خرج رجلان في سفر، فحضرت الصّلاة وليس معهما ماء، فتيمّما صعيداً طيباً” (رواه الحاكم في المستدرك).

ثامناً: الضّربة الأولى، لحديث عمّار رضي الله عنه قال: “فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكفّيه الأرض، ثمّ مسح بهما وجهه وكفّيه” (رواه البخاري)، ولحديثه (عمّار) أيضاً كما في مسند أحمد؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في التّيمّم: “ضربة للوجه واليدين”.

قال الحافظ ابن عبد البر في الاستذكار (2/13)؛ أكثر الآثار المرفوعة عن عمّار ضربة واحدة، وكلّ ما روي عنه من ضربتين فكلّها مضطربة. انتهى كلامه. والمراد بالضربة ملاقاة باطن الكفين للصعيد على أي وجه.

المرجع: العَرْفُ النّاشِر في شرح وأدلة فقه ابن عاشر.