لماذا هذا الصراع التاريخي الدموي المرير حول فلسطين؟
ما هي الأسباب الكامنة وراء الهجمة الصليبية والصهيونية المسعورة على احتلالها وتدنيس مقدساتها؟
هل هو وجع متجدد، ودم ينزف، وجرح غائر في قلب فلسطين بسبب التقسيمات القطرية الاستعمارية البغيضة التي قسمت كل المستعمرات في العالم؟ أم هو عداء خاص للأمة العربية الإسلامية جمعاء مرتبط بمقدساتها؟
إذا كان وعد بلفور المشئوم سنة 1917 بتاريخ النصارى، قد مكن اليهود من وضع اليد على الأرض المباركة المقدسة والتنكيل بأهلها الأصليين، ذبحا وسجنا وتهجيرا وحصارا ودمارا وقصفا بالقنابل الفسفورية المحرمة…
فهل ما يقع على أرض فلسطين اليوم، من احتدام الصراع حولها، وما تسجله المقاومة من بطولات العزة والجهاد والمرابطة في مواجهة بني صهيون هو مقدمة لتحقق وعد الآخرة؟
إذا كان وعد الآخرة يعني دخول المسجد الأقصى وتحرير فلسطين، وفقا لسنن الله التي لا تحابي أحدا، وأخذا بنواميس الأسباب، فما هي إذن شروط تحقيق النصر والتمكين؟
نحاول في هذه العجالة، تسليط الضوء أولا على أهمية فلسطين عامة عند المسلمين، وسر ارتباطهم الروحي والتاريخي بأرض الميعاد؟ قبل بحث الإشكالات الجوهرية المتعلقة بسياق وعد بلفور في محور ثان، لنعرج في المحور الثالث على حتمية وعد الآخرة ثم التوقف عند أهم الاستنتاجات والخلاصات الممكنة.
1- مركزية القضية الفلسطينية وقدسيتها عند الأمة الإسلامية
إن أرض فلسطين مهبط الرسالات السماوية، ومهد الرسل والأنبياء، وهي الأرض المباركة، بركة حسية تتمثل في خضرتها وعذوبة مياهها ووفرة ثمارها، وبركة معنوية بثبات أهلها على الإيمان، ورباطهم التاريخي في الدفاع عن ثغور الإسلام. في حديث صحيح عن أبي ذر – رضي الله عنه -: أَنه سأَلَ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الصلاةِ في بيتِ المقدسِ أفضلُ، أو في مسجدِ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: صلاةٌ في مسجدي هذا، أفضلُ من أربعِ صلواتٍ فيه، ولنعمَ المصلى، هو أَرضُ المحشرِ، والمنشر، وليأتين على الناسِ زمانٌ، ولَقيدُ سوطِ – أو قال: قوسِ – الرجلِ حيث يَرى منه بيتَ المقدسِ؛ خيرٌ له، أو أَحبُّ إليه من الدنيا جميعًا.
المسجد الأقصى هو القبلة الأولى للمسلمين في الفترة المكية وبعدها سبعة عشر شهرا في الفترة المدنية. عن سيدنا البراء بن عازب رضي عنه قال: “لما قدم الرسول صلى الله عنه المدينة نزل على أخواله، وأنه صلى قِبل بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا”، وإليه كان مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في قول الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. هو ثالث الحرمين الذي ينبغي أن تشد إليه الرحال، فعن أبي هريرة رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد؛ مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى”.
يشمل المسجد الأقصى كل ما يوجد داخل الأسوار على مساحة شبه مستطيلة تبلغ 144 متر دونما (الدونم ألف متر مربع)، ويحتل نحو سدس مساحة البلدة القديمة في القدس، يضم داخله عدة معالم أبرزها الجامع القبلي ذو القبة الرصاصية الواقع أقصى جنوبه ناحية القبلة الذي وضع حجر أساسه سيدنا عمر بن الخطاب، تتوسطه قبة الصخرة المشرفة ذي القبة الذهبية التي بناها عبد الملك بن مروان، وتعد من أروع المآثر الإسلامية.
للمسجد الأقصى خمسة عشر بابا، منها باب المغاربة الملاصق لحائط البراق، ويوجد به حي المغاربة وهو من أوقاف صلاح الدين الأيوبي للجنود المشاركين من المغرب العربي في معركة حطين، التي استرجع فيها القدس من الصليبيين سنة 1187 وصادره الاحتلال الإسرائيلي سنة 1967.
كما توجد بالقدس كثير من المآثر المسيحية، أبرزها كنيسة القيامة مهد سيدتنا مريم العذراء، وبها دفن كثير من الرسل والأنبياء. على هذا الأساس كانت فلسطين مطمح الغزاة الغاصبين، ومرمى عين المحتلين على مر التاريخ. من أشرسهم الاستعمار البريطاني وما جلبه على أهلها من نكبات بإصداره وعد بلفور المشئوم سنة 1917م.
فما هو وعد بلفور؟ ما هي سياقاته التاريخية ومآلاته السياسية على القضية الفلسطينية؟
2- وعد بلفور: “وعد من لا يملك لمن لا يستحق”
أ – مضمونه:
إنه رسالة قصيرة بتاريخ 2 نونبر 1917، من وزير خارجية بريطانيا اللورد آرثر جيمس بلفور إلى رئيس الجالية اليهودية في بريطانيا ليونيل وولتردروتشيلد، بموافقة مجلس الوزراء البريطاني، نوردها كالتالي:
“إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وستبذل قصارى جهدها لتحقيق هذه الغاية، على ألا يجري أي شيء قد يؤدي إلى الانتقاص من الحقوق المدنية والدينية للجماعات الأخرى المقيمة في فلسطين أو من الحقوق التي يتمتع بها اليهود في البلدان الأخرى أو يؤثر على وضعهم السياسي”.
جاءت هذه الوثيقة السياسية نتيجة جهود طويلة لزعماء الحركة الصهيونية مع نافذين في الحكومة البريطانية بقصد منحهم أرض فلسطين لإقامة دولتهم القومية مقابل دعمهم للمشروع الاستعماري.
ب – سياقاته التاريخية:
في خضم الحرب العالمية الأولى وقعت كل من فرنسا وبريطانيا اتفاقية سايس-بيكو سنة 1916 لتوزيع تركة الدولة العثمانية بعد سقوطها، مما مهد الطريق لسيطرة بريطانيا العظمى على أرض فلسطين. فبعد معارك دامية مع الإمبراطورية العثمانية، استطاع الإنجليز دخول القدس والسيطرة عليها في 11 نونبر سنة 1917، فنقضت بذلك الوعد البريطاني للشريف حسين بمكة بمحاربة العثمانيين مقابل تحقيق الاستقلال العربي. وقضت على حكم إسلامي دام ثمانية قرون.
في نهاية الحرب العالمية الأولى اتفقت دول الحلفاء المنتصرة سنة 1920 على قرار وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني بحضور زعماء من الحركة الصهيونية. أكدت في ديباجته على تعهدها بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين كما جاء في وعد بلفور، مع إضافة إقرارها بالاعتراف بالصلة التاريخية لليهود بفلسطين. في حين نصت باقي المواد على تأسيس أجهزة إدارية واقتصادية وسياسية لحماية مصالح اليهود، وتشجيع سياسة الهجرة، ومنحهم الجنسية الفلسطينية، والاعتراف بالعبرية كلغة رسمية توازي اللغة العربية.
كما تم الاعتراف بالمنظمة الصهيونية تحت مسمى (الوكالة اليهودية) باعتبارها الجهة التي يمكن التعاون معها لضمان مصالح اليهود، في حين تمت الإشارة باقتضاب إلى الحقوق المدنية والإدارية للطوائف الأخرى مع تعمد إغفال الحقوق السياسية.
ج – مآلاته السياسية:
صادقت عصبة الأمم على صك الانتداب البريطاني المتضمن لوعد بلفور، فتحول بذلك من خطاب النوايا الحسنة إلى وثيقة قانونية، ليتم بعد ذلك الإعلان عن إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين سنة 1920.
أقرت الإدارة المدنية للانتداب البريطاني عدة مراسيم تخدم المشروع الاستيطاني: كمرسوم الهجرة اليهودية، ومرسوم الحد من الملكية للفلسطينيين، ومرسوم الحد من الجريمة لقمع الانتفاضات… فاندلعت ثورات وانتفاضات عربية مع تدفق أعداد المهاجرين اليهود إلى فلسطين، وزيادة السيطرة على الأراضي، وقيام جماعات متطرفة بإحياء طقوسها أمام حائط البراق، وتهريب الأسلحة من الخارج.
قامت القوات العسكرية البريطانية على إثرها باعتقالات عنيفة في صفوف الفلسطينيين واغتيال قادتهم وتشريد أهلهم وتدمير بيوتهم، من أهمها ثورة 1920، وثورة البراق سنة 1929، وثورة القسام سنة 1935، والثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1936.
وقد أنشأت لجان متعددة لحل هذه الأزمات منها لجنة بيل 1937 فأصدرت توصيات: منها تقسيم الأراضي بين الفلسطينيين واليهود، طالبت الوكالة اليهودية على إثرها بإقامة دولة لليهود، سرعان ما صادقت عليه الجمعية العامة. في سنة 1948، أعلنت بريطانيا عن نهاية فترة انتدابها على فلسطين وتسليمها للولايات المتحدة، وقيام الدولتين الفلسطينية واليهودية، فسارعت المنظمات الصهيونية لإعلان قيام الكيان الإسرائيلي، ليبدأ معه مسلسل المذابح والتهجير القسري، وتبدأ النكبة الفلسطينية.
إن الوعد يتطلب ملكية الحق العيني محل الوعد، في حين يوصف وعد بلفور بأنه: “إعطاء من لا يملك – الإنجليز – لمن لا يستحق – “إسرائيل”. وعليه فإن وعد بلفور وعد باطل لأنه يتناقض مع كل مبادئ القانون الدولي، الذي ينظم العلاقات بين الدول، خاصة مبدأ عدم جواز ضم أراضي دول أخرى أو الاعتداء عليها.
إن وعد بلفور هو السبب الرئيسي في قيام الكيان الإسرائيلي: كيان استعماري عنصري توسعي، لا يرعى المواثيق الدولية، ولا القيم الإنسانية. وقد انصهرت مصالحه مع مصالح الامبريالية العالمية، وأصبح شريان الاقتصاد العالمي هو المتحكم في سياساته. وهذا لعمري هو العلو والإفساد الذي أخبرنا به القرآن الكريم في سورة الإسراء.
فهل يا ترى نحن على موعد قريب مع تحقق نبوءة وعد الآخرة، وما ينجزه الله تعالى لعباده الصالحين بدخول المسجد الأقصى كما دخلوه أول مرة، وتحرير فلسطين المغتصبة؟
3- وعد الآخرة: يقين قرآني ووعد رباني
جاء ذكر وعد الآخرة مرتين في سورة الإسراء، بعد ذكر الوعد الأول، وهي البشارة التي ينتظرها المسلمون بفارغ الصبر لدخول المسجد الأقصى وتحريره من الاحتلال الصهيوني الهمجي الغاشم.
فما هو مضمون هذين الوعدين من خلال ما أورده المفسرون؟ هل هي وعود قرآنية بهزيمة بني إسرائيل في الأمم السالفة؟ أم هي بشارات النصر والغلبة للمسلمين على اليهود بعد ظهور الإسلام؟ إذا كان الأمر كذلك، فما هي الشروط العملية لاستحقاق موعود الله بالاستخلاف والتمكين؟
أ – وعد أولاهما:
قال الله تعالى في سورة الإسراء: وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا (الآيتان: 4 – 5).
ذهب علماء التفسير القدامى إلى القول بأن إفساد بني إسرائيل في الأرض وعلوهم الكبير كان قبل الإسلام، لكن هناك علماء محدثين منهم الإمام الشعراوي رحمه الله، يربطه بظهور الإسلام، فهو يرى أن: (الحق سبحانه وتعالى بعد أن ذكر الإسراء ذكر قصة بني إسرائيل، فدل ذلك على أن الإسلام تعدى إلى مناطق مقدساتهم، فأصبح بيت المقدس قبلة المسلمين، ثم أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، وبذلك دخل في حوزة الإسلام، لأنه جاء مهيمنا على الديانات السابقة، وجاء للناس كافة).
ويضيف رحمه الله: (في المدينة أبرم رسول الله صلى الله عليه وسلم معاهدة يتعايشون بموجبها، وفى بهم رسول الله فما وفوا، فلما غدروا بهم، واعتدوا على حرمات المسلمين وأعراضهم، جاس رسول الله خلال ديارهم، وقتل منهم من قتل، وأجلاهم عن المدينة إلى الشام وخيبر، وكان هذا بأمر الله تعالى… وكان هذا هو الفساد الأول الذي حدث من يهود بني النضير، وبني قينقاع، وبني قريضة).
هذا هو الوعد الأول بقتال المسلمين اليهود وإجلائهم من المدينة إلى الشام وخيبر، ولم يقترن هذا الوعد بدخول المسجد الأقصى الذي سيتم في خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عهد الإمبراطورية الرومانية.
ب – وعد الآخرة:
ذكر وعد الآخرة في سورة الإسراء قال الله تعالى: ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (الآية: 6 – 7).
قال الإمام الشعراوي رحمه الله تعالى في التفسير: (فلم يحدث بيننا وبينهم حروب لعدة قرون، منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن حدث وعد بلفور، الذي أعطى لهم الحق في قيام دولتهم في فلسطين، وكانت الكرة لهم علينا في عام 1967، فناسب العطف بـ”ثم” التي تفيد التراخي، والحق سبحانه يقول: {ثم رددنا لكم الكرة} أي جعلنا لبني إسرائيل الغلبة والقوة والنصر على المسلمين وسلطانهم عليهم، لأنهم تخلوا عن منهاج ربهم، وتنازلوا عن الشروط التي جعلتهم عبادا لله. وقوله تعالى: {فإذا جاء وعد الآخرة} في الآية بشارة لنا أننا سنعود إلى سالف عهدنا، وستكون لنا يقظة وصحوة نعود بها إلى منهج الله وإلى طريقه المستقيم، وعندها تكون لنا الغلبة والقوة، وستعود لنا الكرة عليهم، فدخوله الأول لم يكن إساءة لليهود، وإنما كان إساءة للمسيحيين، لكن هذه المرة سيكون دخول المسجد الأقصى، وهو في حوزة اليهود، وسيكون ضمن الإساءة إلى وجوههم أن ندخل عليهم المسجد الأقصى، ونطهره من رجسهم).
كما ذكر وعد الآخرة في آخر سورة الإسراء، قال تعالى: وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (الآية: 104)، عن مجاهد: (جئنا بكم جميعا)، وهو ما تحقق بعودتهم إلى أرض فلسطين.
وعد الآخرة بشارة لنا بدخول المسجد الأقصى، وتحريره من بني إسرائيل المفسدين المستكبرين في الأرض. لكنه وعد بالنصر ينزله الله جلت قدرته على عباد له أولي بأس شديد.
وعد مرهون بتحقق شرطين اثنين: كمال العبودية، وامتلاك القوة. فما المنهج أو المنهاج كما جاء في القرآن الكريم الذي سار على هديه جيل الصحابة الأفاضل فأنجز الله لهم وعده الأول بالنصر والتمكين؟
ج – مقومات الاستخلاف والتمكين:
قال تعالى في سورة المائدة: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا (الآية: 48)، قال ابن عباس رضي الله عنهما: “الشرعة ما ورد به القرآن والمنهاج ما وردت به السنة”، وفي معجم لسان العرب عند ابن منظور: “المنهاج الطريق المستقيم”. جاءت كلمة منهاج في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مقترنة بكلمة النبوة، إذا فهو منهاج نبوة، وطريق مستقيم على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، نذكر منه الحديث الصحيح الذي رواه الدارمي والبزار: “إن أول دينكم نبوة ورحمة، وتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة تعمل في الناس بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويلقي الإسلام بجرانه “أي يستقر ويثبت” في الأرض، يرضى عنها ساكن السماء والأرض، لا تدع السماء من قطر إلا صبته مدرارا، ولا تدع الأرض من نباتها وبركاتها شيئا إلا أخرجته”.
يعقب عبد السلام ياسين رحمه الله على هذا الحديث في كتاب “المنهاج النبوي” بقوله: (الملك العاض الذي يعض على الأمة بالوراثة وبيعة الإكراه مضى وولى، والمسلمون اليوم تحت القهر الجبري أي الدكتاتوري بلسان العصر، ولهو أفظع من العاض، لأن الجبر إن كان يلوح بشعارات الدين كما كان يفعل الملك العاض فقد أفرغ أجهزة الحكم والإعلام والتعليم وأفرغ قوانين الحكم من كل معاني الإسلام. وإن هذه الأمة المغلوبة بحاجة لمن يربي جيلا يحرر الأمة من ربقة الجبر الملحد أو المتستر تحت شعارات الإسلام، ويقيم للأمة دولة الخلافة الموعودة بها عموما في آيات استخلاف المؤمنين المستضعفين في القرآن، المنصوص عليها في سياق تاريخي في هذا الحديث النبوي المشرق الذي نضعه بين أعيننا رجاء يقينا، ونورا هاديا، ونداء غيبيا وتاريخيا، قد أخدت الأمة تسمع له، وتنتفض تلبية له بما يؤيد الله عباده من نصر أخذت تباشيره تجلو عنا غسق الفتنة وظلام الجاهلية المحيط) (ص: 12-13).
المنهاج النبوي سلوك عقبة صاعدة تنطلق من تحرير ما بالأنفس من أنانية وشح وقعود عن نصرة دين الله، وتربيتها تربية إيمانية إحسانية، تسعى للخلاص الفردي بالسعي لتحقيق كمال العبودية، كما تسعى للخلاص الجماعي في خط متواز بإقامة واجب المعروف والنهي عن المنكر والشهادة بالقسط بين الناس، وهو ما يتطلب الكينونة مع المؤمنين، وتربية طليعة ربانية قيادية جهادية، تأتم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسير على منهاجه المستقيم، وقد تكفل الله جلت قدرته بحفظ هذه الأمة ببعثة علماء صالحين عاملين يسعون لإحياء المعاني التربوية الجهادية في الأمة الإسلامية.
وبعد: ما زلنا مع قضية فلسطين، هي ليست قضية وطنية قطرية، بل هي أم القضايا الإسلامية، وحلها ينبغي أن يكون عبر قومة عارمة، تنطلق من مقاومة الاستكبار العالمي الصهيوني ووكلائه المحليين من الأنظمة الدكتاتورية المستبدة، فعن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: “إنه سيلي أمركم قوم يطفئون السنة ويحدثون بدعة ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، قال ابن مسعود: وكيف يا رسول الله إن أدركتهم؟ قال: يا ابن أم عبد، لا طاعة لمن عصى الله، ثلاثا”.
يتعرض إخواننا في فلسطين عامة، وفي غزة بصفة خاصة، بعد واقعة 7 أكتوبر المجيدة من طرف المقاومة الإسلامية، لحرب إبادة جماعية على يد الاحتلال الإسرائيلي، بمباركة الدول الغربية، على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وصمت متواطئ من الأنظمة العربية التي أعطت الدنية لدينها طائعة غير مكرهة بموالاة أعداء، مخالفة قول الله تعالى في سورة التوبة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (الآية: 51).
فطوبى لكم بهذا الاصطفاء بالجهاد والاستشهاد في أرض الرباط دفاعا عن مقدسات الأمة الإسلامية، رغم تخاذل العالم عن نصرتكم، كما جاء في الحديث الذي رواه سيدنا أبو أمامة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك”، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: “ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس”.
إن أفضل الجهاد رباطكم على ثغور الإسلام، فعن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أول هذا الأمر نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكا ورحمة، ثم إمارة ورحمة، ثم يتكادمون عليه تكادم الحمر. فعليكم بالجهاد، وإن أفضل جهادكم الرباط، وإن أفضل رباطكم عسقلان”. الكدم: أثر العض، كما جاء في المعجم الوسيط، وعسقلان يقصد بها أيضا غزة في كتب التاريخ.
بعد استكمال شروط التربية الإيمانية الجهادية، وإعداد جند الله الأمناء الأقوياء، غايتهم طلب وجه الله والشهادة في سبيل الله، يأتي اليقين في وعد الآخرة بدخول المسلمين المسجد الأقصى، وبوعد الاستخلاف في الأرض والتمكين للدين الإسلامي إن وفينا بشرط إخلاص العبودية لله والكفر بالطاغوت.
يقول عبد السلام ياسين رحمه الله في مقدمة كتاب سنة الله: “سنة الله أن ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة إن آمنوا وعملوا الصالحات، لا إن أخلوا بالشرط الجهادي حالمين بالمدد الإلهي الخارق للعادة، وهو مدد لا يتنزل على القاعدين بل يخص من قام وشمر وتعب وبذل الجهد، وأعطى الأسباب حقها”.
من شروط سنة الله تعاقب النصر والهزيمة تمحيصا للصادقين من المنافقين، ولئن أصدر بلفور وعده لليهود بإقامة دولتهم في فلسطين بعد ضعف الدولة العثمانية، فنحن بإذن الله تعالى على موعد بتجديد الخلافة الثانية على منهاج النبوة، ووعد بتحرير فلسطين، بفضل هذه الصحوة المباركة، وبعثة الأمة الإسلامية بإحياء معاني الجهاد والشهادة في سبيل الله. وإنه لجهاد؛ نصر أو استشهاد، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
لا إله إلا الله محمد رسول الله، والحمد لله رب العالمين.