تحل الذكرى الثانية عشرة لرحيل الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله لتكون شاهدا جديدا على أن مشروعه الفكري والتربوي يزداد حضوره بروحه وأثره في مسيرة الدعوة والعمل للتغيير. هذه الذكرى، كما كل المناسبات المماثلة، ليست تقليداً عابراً لاستذكار الإمام ومشروعه، بل هي محطة لتكثيف الحضور والتذكير بروح المشروع التي تُلهم الجماعة وأفرادها وكافة الأمة في كل لحظة.
رغم رحيله، أثبت أبناء العدل والإحسان أنهم أوفياء لهذا النهج، وفاء حيا يتمثل في الالتزام بقيم المشروع وروحه، مع العمل على تجديده وتطويره لمواجهة تحديات العصر. هذا الوفاء الذي علمنا الإمام أنه لا يعني التقليد الأعمى أو الجمود الحرفي، بل يعني السير على درب الاجتهاد المسؤول، والاجتماع على كلمة الحق، والبذل المتواصل لإقامة العدل والإحسان في واقع الأمة.
لقد كانت الاثنا عشرة سنة الماضية كافية لاختبار متانة هذا المشروع وعمق هذا الوفاء، فخيب أبناء الجماعة رهانات من توقعوا أن غياب الإمام سيؤدي إلى التفرق أو الضعف. بل أثبتوا أن مدرسة الإمام عبد السلام ياسين هي مدرسة بناء الإنسان والمؤسسة، مدرسة تحمل رسالة خالدة تتجاوز الأشخاص إلى المبادئ، وتنتقل من جيل إلى جيل بأمانة وحكمة.
إحياء هذه الذكرى كذلك هو استحضار لروح المثابرة والعطاء المستمر رغم التحديات، وهو دعوة للأجيال القادمة لتستلهم نموذج القائد المربي الذي جمع بين الفكر والعمل، وبين الثبات على المبادئ والاجتهاد لتطويرها.
إن القصد من هذا المقال ليس الإحاطة بكل الأولويات التي اشتمل عليها مشروع الإمام، بل كان التوجه نحو اختيار بعض الأولويات البارزة التي أرى أنها حظيت بأهمية خاصة وتكتسب بعدا حيويا في السياقات الحالية التي تمر بها الأمة.
1- “اقتحام العقبة”: الخيط الناظم للمشروع
من المفاهيم المحورية التي تأسس عليها مشروع الإمام عبد السلام ياسين هو مفهوم “اقتحام العقبة”، الذي يمثل العمل الدؤوب الحثيث لتجاوز الحواجز النفسية والمادية والاجتماعية التي تعترض طريق سلوك الفرد وحركة الجماعة والمجتمع.
“اقتحام العقبة” في رؤية الإمام ليس فقط تحدياً فرديا، بل هو مشروع جماعي يبدأ بتحرير القلب من قيود الأنانية والشهوات والتقاعس، مرورا بالبذل والجهاد، وصولا إلى بناء مجتمع متماسك يقاوم الظلم والاستبداد، ليبلغ مجتمع العمران الأخوي المتراحم، والنامي والقوي.
2- الخصال العشر: منهاج حياة في مشروع الإمام
ومن بين أبرز المكونات التي شكلت المشروع التجديدي للإمام عبد السلام ياسين، كانت الخصال العشر، التي لم تكن تكرارا لقيم نظرية أو شعارات فكرية مألوفة، بل كانت منهاجا عمليا لبناء الإنسان المتوازن، الفرد الذي يوازن بين الإيمان والعمل، بين التزكية الذاتية والعمل في المجتمع.
تشمل هذه الخصال: الصحبة والجماعة والذكر والصدق باعتبارها مفاتيح لتزكية القلوب وتقويم السلوك البيني مع المجتمع وفي سلم الترقي في مدارج القرب من الله عز وجل. وخصال العلم والعمل والبذل باعتبارها أجنحة للعمل التغييري الناهض بالفرد والجماعة والمجتمع والدولة والأمة. وخصلتا السمت والتؤدة المجسدتان لقيم الحكمة والرفق ونمط العيش والسلوك والعلاقات. وخصلتا الاقتصاد والجهاد باعتبرهما ركيزتا القوة الهادئة التي على أركانها تبنى صلابة المجتمع والدولة بين الدول والأمة بين الأمم.
وقد عمل الإمام ياسين على غرس هذه القيم في النفوس لتتحول إلى سلوك عملي، يسهم في بناء فرد قادر على حمل رسالة الإصلاح ومجتمع متماسك يسوده العدل والإحسان.
3- الإمام ودوره في مواجهة الاستبداد
أحد الملامح المركزية التي ارتبطت بالإمام رحمه الله هو موقفه الجريء في مواجهة الاستبداد، باعتباره العقبة الكبرى أمام نهضة الأمة. لم يقف الإمام عند عتبة نقد الاستبداد، بل واجه الظلم والفساد بصبر وثبات وثمن كبير من حريته طوال حياته، مؤكدا أن مقاومة الاستبداد ليست معركة سياسية فقط، بل هي مشروع شامل يبدأ من تحرير الفرد من قيود الخوف والانكسار، ويمتد إلى بناء مجتمع قائم على العدل والكرامة والحرية.
لقد كانت مواقفه من الظلم تعبيرا عن إيمانه العميق بأن أي مشروع تغييري لا يمكن أن يتحقق دون مواجهة أنظمة الاستبداد التي تقيد إرادة الشعب وتنهب ثرواته.
4- الشباب في مشروع الإمام: ركيزة البناء الجماعي والمجتمعي
كان الشباب في صلب مشروع الإمام عبد السلام ياسين، حيث أدرك أن بناء أمة قوية يبدأ بإعداد جيل شاب واع يحمل مسؤولية الإصلاح بروح المبادرة والتجديد. تميز الإمام بقدرته على استيعاب طاقات الشباب وتوجيهها نحو البناء بدل الهدم، وغرس الإيجابية في نفوسهم عوض الانجراف نحو العنف أو تكفير المجتمع.
عمل الإمام على تربية الشباب على الاندماج في مجتمعاتهم بروح إصلاحية تغييرية إيجابية، مع التأكيد على قيم المحبة والبذل.
فحَصَّنهم من الفكر المتطرف ودعوات العنف، مؤكدا أن الإصلاح يبدأ بالتغيير الذاتي والمجتمعي المتدرج، وليس بالصدام المدمر أو التنازل عن المبادئ. كما وجههم لمناهضة الاستبداد بطريقة بنّاءة تجمع بين القوة الأخلاقية والتربية الفكرية.
كذلك أدرك الإمام أهمية الحوار والتعايش بين مكونات المجتمع المختلفة، فربى الشباب على هذه القيم التي تضمن وحدة الأمة وتكامل جهودها. وقد تجلى ذلك في حراك 20 فبراير 2011 وما سبقه وما تلاه، حيث أثبت شباب الجماعة قدرتهم على التعايش السلس مع شباب مكونات أخرى من المجتمع، محققين النموذج الحي للحوار والاحترام المتبادل.
ومن هذا المنطلق اختارت جماعة العدل والإحسان، في هذه الذكرى الثانية عشرة لرحيل الإمام عبد السلام ياسين، اتخاذ موضوع الشباب محورا مركزيا في هذا الإحياء.
وبهذا فإن الذكرى الثانية عشرة لرحيل الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله هي أكبر من لحظة استذكار، بل هي محطة لاستلهام مشروعه التربوي والفكري، المشروع الذي قام على بناء الإنسان وتحريره من قيود ذاته وأكبال الاستبداد، مشكلا بذلك منارة للأجيال الحاضرة والقادمة، ودعوة مفتوحة لاستكمال المسير على درب الاجتهاد والتطوير، وحمل قيم الحوار، ومبادئ العدل، ومقاصد الإحسان.