في الطريق إلى سلا.. خواطر الوفاء

Cover Image for في الطريق إلى سلا.. خواطر الوفاء
نشر بتاريخ

سافرت كثيرا وتنقلت بين أماكن عديدة، لكن السفر إلى مدينة سلا يحمل لي مشاعر تغمرني حبا واشتياقا وامتنانا وإجلالا وفخرا، لأنها ترتبط في وجداني بولادة جديدة، بانعتاق الروح، بنسيم الحياة السرمدية؛ بهدية السماء إلي في يوم لم أفهم ولم أبحث ولم أبذل جهدا بحكم نشأتي في بيت ملتزم إلى حد كبير بالسنن بعد الفرائض، لم أكن أعي معنى الصحبة ولا المصحوب، بل كنت أحسب كل حديث عن الأولياء والأضرحة وما شابه هو شرك وخبل.

تعود بي الذاكرة لأيام الصبا ونحن تلاميذ، تسيطر علينا الحركية والحماس والإقبال، يومها كنت على يقين أن في سلا رمزا ومناضلا حرا ومدافعا عن الإسلام تلقى السجن والجبر من أجل كلمة حق، كانت مواقفه تثير الإعجاب والتقدير والاحترام.

ثم ساقتنا الأقدار إلى الجامعة، فكان -رحمه الله تعالى- الغائب الحاضر في منتدياتنا وحلقاتنا، نتطلع لكل جديد نشر من مشروعه، وتوالت كتبه: في الاقتصاد، رسالة إلى كل طالب وطالبة، حوار مع الفضلاء، حوار مع صديق أمازيغي، محنة العقل المسلم… نقرأ، نناقش، نختلف ونجتمع حوله، فكان خبز موائدنا وقوت أرواحنا، ولم يكن باعثنا الترف الفكري والفضول المعرفي، بل كان العمل حاذينا والميدان مختبرنا دعوة ومطاولة للباطل واستبشارا بهذه الصحوة المتوثبة، ومعانقة لقضايا الأمة؛ الجهاد الأفغاني والبوسنة والهرسك وفلسطين، واحر قلباه مما فعله ويفعله الصهاينة بفلسطين، ويا خذلان العرب والمسلمين!

كان ولا يزال ظهرنا وفخرنا، الذي لا يقدر من خاصمونا أو ضايقونا أو ضيقوا علينا أن يتطاولوا عليه أو على صدقه ورجولته وصلابته وطهارة يده وسريرته، أحببناه مرشدا قبل أن نراه، فالإقامة الجبرية -الحصار – منعته عنا وحرمتنا قربه وحالت بين الأشباح، لكن الأرواح كانت تلتقي في ساحات الأسحار ومحاريب الأبرار، موافقة للأقدار، مسلمة لقضاء الملك الجبار.

كان وما يزال صاحب فضل، وماحق جهل، وهادي روح وعقل، فلم نكن نعرف لا وردا ولا موردا، لا صلة ولا موصولا، لا مبتدأ ولا خبرا، ولا فاعلا أو مفعولا، فكان هو البلاغة والبيان، والسماء والميزان ورحمة الرحمان.

الطريق إلى سلا يحملني إلى مجالس الأحد حيث تجتمع بالإمام المرشد، لما كان يسعدني القدر ويسوق لي رزقي فأنعم بفرصة الذهاب للزيارة وإن صح التعبير للاستشفاء، وأنا موقنة أن الذهاب لرؤية الإمام نوال ومغنمة ومنعمة ومرحمة، في ليلة الذهاب لا أنام بل لا أنام ليالي شوقا للقاء الأحبة أستعجل الساعات، ويا لطول المسافات إلى سلا! أحس قلبي يسبقني طائرا سعيدا ترك قفصه ونال حريته.

أدخل دارك العامرة سيدي، أرى طيفك وأسمع كلماتك وأشتاق لأيام كنت بيننا، أتخذ لنفسي مجلسا بعيدا في زاوية حيث أراك وأستحيي أن تراني تأدبا في حضرتك.

ألمحك تدخل بمعية أصحابك، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، خفيف الظل وئيد الخطى توزع نظراتك على الحاضرين والحاضرات، تتطاول الأعناق وتتسابق العيون وتهفو القلوب لتقضي حاجاتها بين أحضانك، تجتهد في الدعاء وتشحذ الهمم، تسأل وثغرك ابتسام “شكون حافظ القرآن؟ شكون بغا يحفظ القرآن قبل ما يموت؟”.

واليوم عندما نكون في دارك نحس بالحنين والاشتياق لمجالستك، ونحس أن المكان؛ الأسقف والجدران مشتاقة إليك.

وتحملني ذاكرتي إلى مجلس الثلاثاء، أذكرني أتدبر أمر ابني تلك الأمسية كي أحظى بمقعد لا أرضاه إلا قربا أتملى من عيون الحبيبات وأرتوي، أسمع الهمسة وأفهم البسمة وتعبر إلى وجداني الكلمة بل الكلمات التي كان الله تعالى يجريها على ألسنة الحبيبات ممشوقة جميلة تعطي المشهد جمالا وبهاء وبناء.

وأنا الآن في طريقي إلى سلا لتأبين امرأة عزيزة وأخت حبيبة وخادمة لبيبة، سبقتنا إلى الدار الآخرة محبة ووفاء وعرفانا، أستشعر عظم ما فعله الرجل رحمه الله فينا؛ تحملك همته وتحمل معك جسدك المنهك من أعباء الحياة فتحملك صحبته وتحمل عنك. تتدافع العبارات ممزوجة بالعبرات، ماذا فعلت فينا يا سيدي؟ كيف جمعت بين يديك لنا ما عند الناس متناقضات؟ أنت ومالك وبيتك… تفكر، تنظر، تحمل هم أمتك وقضاياها رغم قلة حيلتك.

أسعى جهدي وأنا في طريقي من أو إلى سلا أن أمر على روضتك، أسلم وأوثق الصلة رغم أنك علمتنا وصدقنا أنه “لا تحبس الصلة برازخ الموت”، قد يعاب علي – بل علينا – هذا الحب ويقال أحب في زمن النكران والكراهية والإقصاء والجفاء؟

يا سادة إنها سلا وكل شيء عندي فيها، إن غبت سيدي فإنك في قلبي حاضر، وإن مضيت فأنت فينا وبيننا ناظر، رحم الله من سكن الدار العامرة في سلا، ومن أحب من سكن، ومن ولجها ومن نصره إلى يوم الدين.

وصدق شاعر العاشقين:

أَمُرُّ عَلى الدِيارِ دِيارِ لَيلى

أُقَبِّلَ ذا الجِدارَ وَذا الجِدارا

وَما حُبُّ الدِيارِ شَغَفنَ قَلبي

وَلَكِن حُبُّ مَن سَكَنَ الدِيارا