شكاوى.. وشكاوى..
– زوجي دائم الصمت…
– زوجتي لم تعد تطيق الكلام معي ولا تبادلني الكلام…
– اذهب يا بني إلى أبيك وقل له كيت وكيت…
– زوجتي لا تصغي إلي ولا تجيد إلا الثرثرة…
– آلو: أخبر أمك أن ضيوفا سيأتون معي للغذاء…
– زوجي لا يمل الحديث مع زملائه في العمل ومع أصحابه، وعند دخوله البيت يكون قد أفرغ جعبته من الكلام ليحل محله الصمت الرهيب ومشاهدة التلفاز وتصفح الجرائد…
– بيتي خال من الضحك والبهجة ومليء بالكآبة والصمت الرهيب…
– لماذا لا تتكلم؟ لماذا لا ترد؟ لماذا تتجاهل؟…
– زوجي يخنقني بتجاهله لي وعدم محادثته لي ورده باقتضاب على تساؤلاتي…
– لا أعرف ما الذي يضايق زوجتي…
هذه صرخات العديد من الأزواج والزوجات الذين يعانون من غول اسمه: “الصمت الزوجي”!
علامات الخطر!
– في غرفة الجلوس هي تجلس في أقصى الغرفة.. وهو في الجانب الآخر. يصرف كل واحد منهما عن صاحبه العبث بالهاتف النقال، أو مشاهدة التلفاز، أو تصفح الجرائد، أو… دون أن ينبس أحدهما ببنت شفة.
– على مائدة الطعام، وحشة الصمت تخيم على المكان، لولا ما تسمعه من مضغ الطعام أو ارتشاف مشروب..
وتلك حالة من حالات كثيرة ونموذج لعدد من الأسر التي غاب عن أجوائها طائر الحوار والتفاهم والتقارب.
الصمت الزوجي مشكلة عويصة تعاني منها العديد من الأسر..
“السكتة الزوجية” سلوك سلبي يعبر عن مدى سمك الجدار الحائل بين الزوجين، مما قد يؤدي يوما إلى انفجار عنيف يهز أركان البيت السعيد.
قد لا يتصور الزوجان حصول هذا الانحدار في حياتهما الزوجية بعد كل المشاعر المتوقدة التي جمعتهما، وينقلب كل ذلك إلى صمت رهيب يزلزل أركان بيت الزوجية ويصدع جدرانها فتصبح آيلة للسقوط..
فما هي أسباب الصمت الزوجي؟ وكيف لنا تجاوزها؟
1- فتور المشاعر بين الزوجين: البرود العاطفي بين الزوجين غالبا ما يكون ناتجا عن عدم الاكتراث بالطرف الآخر، أو عن عدم إيلاء التعبير عن المشاعر العناية اللازمة.
فليسأل كل زوج(ة) نفسه(ها):
– متى عبرت لشريك حياتي عن مشاعري آخر مرة؟
– كم مرة خرجت معه(ها) في نزهة على انفراد؟
– منذ متى أعطيته(ها) هدية؟
– كم مرة أعلمته(ها) عن رغبتي في الحديث والمجالسة؟
أجوبتنا ستدلنا بالتأكيد على مدى رعايتنا لبذرة المودة والرحمة التي قذفها الله تعالى في قلب الأزواج وجعلها من نعمه وآلائه.
أجوبتنا ستدلنا على مدى اقتداءنا بالهدي النبوي الصافي من خلال سيرة حبيبنا المصطفى عليه الصلاة والسلام مع نسائه، وكيف كان يسابق أمنا عائشة، ويطمئنها على حبه ويشبهه في متانته “بالعقدة”.
عن ابن القيم قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا بنسائه ألين الناس، ضحاكا بساما”.
2- عدم الوعي بقيمة الحوار: فهو قنطرة التواصل وحبل الترابط بين الزوجين، فإذا تصدع هذا الجسر، وانقطع هذا الحبل، اتسعت مساحة الصمت في الحياة الزوجية، وسمك الجدار الحائل بين الزوجين…
قد يصرخ في وجهي أحد الأزواج قائلا:
– “وما فائدة الحوار؟ نحن بالحوار تزداد الهوة بيننا اتساعا، ويتطاير الشرر وترتفع الأصوات وتنتفخ الأوداج وتجحظ الأعين.. ونضيف أثناءه إلى أرشيف خلافاتنا الزوجية ملفات إضافية؟”.
إن هذا أبعد ما يكون عن الحوار. الحوار ليس اصطداما بين آراء متشاحنة، وليس فرصة لتوجيه اللوم والعتاب، أو تبادل الاتهامات وارتفاع الأصوات..
الحوار المطلوب إنصات وحسن استماع واختيار للوقت المناسب والكلمة الأنسب والنبرة الهادئة.. لأن ارتفاع الصوت والغضب يقتل لغة الحوار بين الزوجين.
كما أن فشلنا في إدارة الحوار لا يجب أن يكون ذريعة للتخلي عنه وسد بابه والاستكانة إلى الصمت والرضا به، مستدلين بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت” [رواه الشيخان]، فهذا الحديث لا يدعو أبدا إلى نشر ثقافة الصمت السلبي في البيت أو خارجه.. بل يحفزنا على اللباقة الكلامية باختيار أحسن الألفاظ وأجمل التعابير، وهذا ما يجب التدرب عليه واكتسابه..
تعالوا إذن – أيها الأزواج – نرتشف من رحيق سنة حبيبنا وقدوتنا عليه الصلاة والسلام، ونقترب من بيته صلى الله عليه وسلم لنرى الحوار في أبهى تجلياته. فقد كان النبي الكريم عليه الصلاة والسلام يتحدث مع أزواجه في شؤون الحياة والدعوة، وهكذا نجده في أهم لحظة من حياته صلى الله عليه وسلم، بل وفي حياة البشر جميعا، لحظة نزول الوحي، أول من فزع إليه وركن، ومن أخبر بذلك وأنبأ كانت زوجته أم المؤمنين سيدتنا خديجة رضي الله عنها، حيث قامت بتهدئة روعه وطمأنة فؤاده بذكر خصاله وأخلاقه وسيرته، فكان حوارها بلسما على قلبه الشريف صلى الله عليه وسلم.
وفي أحرج موقف له صلى الله عليه وسلم مع الصحابة في صلح الحديبية، عند تماطلهم في التحلل والاستجابة لبنود الصلح، دخل حائرا على أمنا أم سلمة رضي الله عنها، فهونت عليه وأشارت عليه لتنقذ المسلمين من هذا الموقف العصيب تجاه نبيهم.
وفي حوار الرسول صلى الله عليه وسلم مع أمنا عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك، بعد علمها بالحدث، من العبر ما به نتعلم فن إدارة الحوار وأدب النقاش الرفيع بين الزوجين.
3- عدم الصراحة والوضوح بين الزوجين: فلا أحدهما يتحدث، ولا الآخر يسأل، وكل منهما يتجرع همومه ويحمل في صدره هموما تنوء عن حملها الجبال.
4- تجاهل حقوق الطرف الآخر: وهذا دليل على عدم الاهتمام وقلة التقدير. والله تعالى يذكرنا في محكم كتابه العزيز قائلا: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة، 226]. فقيام كلا الزوجين بحقوق الآخر ليس تفضلا بل تذكرا لفضله مصداقا لقول الله عز وجل: وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة، 235].
5- الهروب من مواجهة المشاكل والخلافات: بعض الأزواج أو الزوجات يفضلون الصمت لعدم قدرتهم على المواجهة ظنا منهم أن تجاهل المشكل كفيل بحله، والواقع يؤكد عكس ذلك، بحيث تبقى المشاكل معلقة، وقد تجر معها طابورا من المشاكل الموالية لأن المشكلة الأم لم تعالج.
6- تناقض الآراء بين الزوجين: في أمور معينة مما يدفع ببعض الأزواج إلى تفضيل الانسحاب بالسكوت. فتبقى الأمور بينهما معلقة، والمصالح معطلة.
7- انشغال أحد الزوجين أو كلاهما: بحيث يعود منهكا من عمله، وتعود مرهقة ليقابلها البيت ومطالبه والأبناء وحاجاتهم، فلا ينقضي عمل حتى يتلقفها غيره. ويتعلل كل واحد منهما بقلة الوقت، ونفاذ الطاقة النفسية والذهنية. والعلاج يتطلب تدبيرا جيدا للوقت وبرمجة محكمة للتوفيق بين كل المتطلبات.
والأطفال..
أيها الزوجان! إن الخرس الزوجي لا يهدد حياتكما الزوجية فقط، بل يهدد مستقبل وشخصية أطفالكما:
– فهو يفقدهم الإحساس بدفء الأسرة واستقرارها.
– يصيبهم بالعجز عن التعبير الجيد عن النفس.
– يجعلهم انطوائيين، غير قادرين على التواصل مع الغير، لأنهم لم يتربوا في جو يسوده الحوار والتواصل.
– يهددهم بالفشل الأسري هم كذلك لاحقا.
والأهم! إن الصمت الزوجي لا يهدد فقط عشرتكما الدنيوية بسكتة قلبية، بل – وهذا هو الأخطر – يفوت عليكما نعمة التلاحم والتعاون لعبور قنطرة الدنيا إلى الدار الآخرة؛ دار البقاء، حيث يخاطب الباري جل في علاه الأزواج المتقين قائلا: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ [الزخرف، 70].
لا حرمنا الله وإياكم من حبور الدنيا والآخرة. آمين.