مقدمة
الكثير من الخبراء التربويين في كل عصر ومصر يؤكدون على ضرورة منح الأطفال ما يستحقون من الحب والحنان، لأن حرمانهم منهما سيجعل نموهم ناقصا إلى درجة الإعاقة، حتى وإن لم تظهر على المستوى الجسدي فإنها ستظهر على المستوى النفسي والعقلي. هذا جميل جدا؛ أن يحظوا بالحب من قبل غيرهم وخاصة من والديهم، لكن منعهم، أو لنقل عدم مساعدتهم على إدراك معنى الحب من جانبهم؛ ماذا يحبون؟ وكيف يحبون؟ حرمان أيضا، لذا يجب أن يتمتع الأطفال كغيرهم بالحب للآخر في الاتجاه الصحيح الذي يناسبهم.
تعليم الحبّ
في مجتمعاتنا يشكل الحب عند أطفالنا هاجسا مخيفا، لا يمكن أن تنطق به ألسنتهم، لأن ما يرونه في وسائل الإعلام من أفلام ومسلسلات طبع في أذهانهم نوعا واحدا من الحب، هو الذي يتم بين الرجل والمرأة. هذه جريمة كبيرة للإعلام في حق أبنائنا، نضيف إليها جريمة أخرى من جهتنا حين لا نوجههم إلى أن هناك أنواعا أخرى من الحب وهي مهمة، وأن عدم الحب بالمرّة يعني الكراهية، والكراهية تعني الصراع والخصام، وهذا ما لا ينبغي أن يتربى عليه الأطفال، بل علينا أن نعلمهم كيف يحاربونه.
أنواع أخرى من الحب مهمة هي من صميم إيماننا بالله، بل هي من أصوله، وعلى رأسها حب الله ورسوله، وحب الوالدين، وحب الإخوة والأخوات لبعضهم البعض، ثم حب الخير للناس، وحب الطبيعة في مناظرها، وحب الأخلاق بالاتصاف بها، وحب الصلاة بالحفاظ عليها، وحب الاجتهاد لتحصيل العلم. جاء في الحديث النبوي الشريف: “أدبوا أبناءكم على ثلاث خصال، حب نبيكم وآل بيته وتلاوة القرآن، فإن حملة القرآن في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، مع أنبيائه وأصفيائه” (1). أدبوا يعني أن الحب تعليم وليس مجرد وصية وتوجيه فقط.
عندما يولد الأطفال في حضن والديهم، ويفتحون أعينهم لا يرون أمامهم وبجانبهم غيرهم، فإن هذا يجعلهم يحسون بعاطفة قلبية خاصة تجاههم، بينما لا يتمتع الآخرون من حبهم إلا بمقدار ما يتقربون به إليهم من أشياء يهدونها إليهم. هنا وفي هذه المرحلة ينبغي للآباء والأمهات أن يتدخلوا بتوجيهاتهم حتى يربطوهم بالآخرين ويؤكدون لهم أن من غير والديهم يوجد من يستحق حبهم كذلك من زملاء الدراسة، وأصدقاء الحي، وكل مسلم تربطنا به العقيدة على وجه الأرض في أي زمان ومكان.
حبّ من سجن
إذا كان حب الأطفال لوالديهم باعتبارهم أفضل ما في الدنيا لا ينبغي أن يكون عائقا لحب الآخرين وحب الخير لهم، فكذلك حب الوالدين لأطفالهم لا ينبغي أن يكون عائقا لمعانقة آفاقهم المستقبلية وتحقيق طموحاتهم في الحياة بإظهار ذكائهم وقدراتهم ومهاراتهم، فإن هذا الحب الناتج عن الخوف من الفشل أو الخسارة أو التعرض لسوء أو أذى بمثابة سجن قضبانه من أذرع محبوبين. كتب سارتر يقول: “ليس هناك أحسن من إنجاب أطفال، ولكن أن نستحوذ عليهم فذلك ظلم كبير” (2). ومن مبررات هذا السجن: لا تفعل أنت ما زلت صغيرا، لا تذهب أنت لا تستطيع، اختر لك الأسهل، ليس لدينا الدعم الكافي.. هناك إذا قاموس من كلمات الإحباط. ومن باب التربية والتعليم أن يعلم الآباء والأمهات لأطفالهم مواقف التحدي، حتى يرتقوا بتفكيرهم من الأسهل إلى السهل، ومن السهل إلى الصعب، ومن الصعب إلى الأصعب، بهذه المواقف تتقوى شخصياتهم وتتطور.
من الأخطاء الكبيرة التي نقع فيها في بعض الأحيان أن نحاول صياغة شخصيات أطفالنا نسخة طبق الأصل لشخصياتنا، فيكون الولد نسخة لأبيه، والبنت نسخة لأمها، مع أن الموقف الصحيح هو أن نترك لهم الحرية الكاملة في اختيار شخصياتهم التي تناسبهم وتناسب ميولاتهم. ومن الأخطاء كذلك أن نتضايق من حبهم الكبير للعب وحبهم اكتشاف الأمور من حولهم، ولا ندرك أن عالم الأطفال الحقيقي بالنسبة إليهم هو اللعب والمرح، وزمانهم اكتشاف الأشياء من حولهم، والسعي إلى إثبات وجودهم ولفت أنظار الناس إليهم، لذلك لا يجب أن نتضايق من كثرة حبهم للعب، ولا كثرة حبهم لاكتشاف بعض الأمور بالبحث والأسئلة. بل يجب أن نمنحهم الوقت الكامل للعب حتى يشبعوا رغبتهم، ومن الجميل أن ننظم لهم هذه الأوقات، ومن الجميل جدا أن نشاركهم فيها في بعض الأحيان، وكما نمنح لهم الوقت للعب نمنح لهم الفرصة لمساعدتهم في بحثهم، والإجابة عن أسئلتهم بالحوار والحكمة، فإن أي قمع أو تجاهل في هذا المجال في مرحلة الطفولة بدعوى الممنوعات يفسد على الطفل نسبة كبيرة من الذكاء والفطنة.
الحبّ رحمة
إن كان الله تعالى كتب على نفسه الرحمة، ورحمته وسعت كل شيء، ورحمته سبقت غضبه، ورحمان رحيم، وبعث رسله رحمة للعالمين، وأنزل كتُبه رحمة وشفاء للمؤمنين، ويحب من عباده الرحماء، فإنما لنتصف بهذه الصفة الجمالية ونتخلق بها. وأولى الناس برحمتنا الوالدان والأهل والأولاد. ففي حق الوالدين قال سبحانه: واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا (الإسراء: 24)، وفي حق الأهل والأزواج قال سبحانه: وعاشروهن بالمعروف (النساء: 19)، وقال صلى الله عليه وسلم عند الوفاة: “استوصوا بالنساء خيرا” (3)، وفي حق الأولاد الصغار قال صلى الله عليه وسلم: “ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا” (4). وفي حق جميع الخلق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء” (5).
على ضوء هذا نجد مما يبعث في الأطفال السعادة والإحساس بالحنان من قبل والديهم أن يحظوا بالتقبيل على خدودهم وجباههم عند ذهابهم إلى النوم أو استيقاظهم منه، وعند ذهابهم إلى المدرسة أو عودتهم منها، فقد كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عندما يرى ابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها يقف لها ويقبلها بين عينيها. وأثناء هذا الاهتمام وبعده الدعاء لهم بالصلاح والنجاح والفلاح في كل أمورهم. وهذا ينافي التقليل من قيمة الأطفال والتنقيص من كرامتهم بالشتم والتوبيخ المبالغ لمجرد أخطاء قد يرتكب منها الآباء والأمهات ما لا يُحصى عدّا ولا يوزن ثقلا ولا يقاس طولا.
انفرد أيها الأب في كل مرّة بأحد أولادك إما جلوسا وإما تجوُّلا وتحدث معه بلطف حول أموره الشخصية من دون حرج، فإن هذا الموقف سيقوي ثقته بك أكثر. قل لولدك ماذا تحب في هذه الحياة، ماذا تتمنى أن تكون، وبناء على ميولاته ساعده ووجهه ليتمكن من تحقيق ما يحب ويتمنى.
تأخر الذكاء ليس من الغباء
كثيرا ما نجني على الأطفال حين نصفهم بالغباء لمجرد تأخر ذكائهم وضعف نتائجهم المدرسية، فمن يستقرئ التاريخ يجد من الشخصيات المشهورة من كانت طفولته غالبا ما توصف بالغباء لكن سرعان ما فاجأت من حولها بالنبوغ والتفوق، فاكتشفت وأبدعت واخترعت وما تزال بصماتها على صفحات التاريخ خالدة تحكى ولا تُمحى.
من بين هؤلاء الذين يذكرهم لنا التاريخ:
– ألبرت اينشتاين، عالم ألماني أحدث انقلابا في العلم بنظريته في “النسبية”. عانى كثيرا في صباه من قسوة ليس من أبيه وإنما من مدرسيه وذلك بسبب “غبائه”. لكن اينشتاين الموصوف بالغباء لم يستسلم بل واصل دراسته حتى حصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة (زيوريخ)، ثم عينّ مدرسا للعلوم الرياضية والطبيعية في مدرسة الألسن بزيوريخ. بعد ذلك بأعوام تلقى اينشتاين درجات فخرية من عدة جامعات. وفي عام 1921 منح جائزة “نوبل العلمية”. وتعتبر نظريته المشهورة في “النسبية” حجر الزاوية الآن في العلوم الطبيعية.
– جوليلمو ماركوني، عالم إيطالي اخترع اللاسلكي. عندما كان يحاول أن يبعث رسائل لاسلكية وهو حديث السن صارحه أبوه بأنه يضيع وقته هباء، لكن بعد ذلك بسنين قليلة سيبيع الشاب بعض ما توصل إليه من مخترعات إلى الحكومة البريطانية بمبلغ 50,000 ليرة. فكان تأثير ذلك على أبيه بالغا. في عام 1901 نجح ماركوني في نقل الرسائل اللاسلكية عبر المحيط الأطلنطي. وفي سنة 1909 منح جائزة نوبل في العلوم.
– وليم شكسبير، شاعر الإنجليز وكاتبهم المسرحي الأعظم. من عجائب المفارقات في حياة هذا الرجل الذي قُدّر له أن يصبح عنوانا لقوة ومجد الأدب الإنجليزي أنه اضطرّ إلى ترك المدرسة وهو بعد في الثالثة عشرة من عمره، كي يعمل ويعين أباه الفلاح في حلب البقر ورعاية الماشية ودبغ الجلود. أنتج أربعا وثلاثين مسرحية، إلى جانب القصائد والمقطوعات الشعرية التي بلغ عددها 1540. ولقي تقديرا قوميا في حياته، وتقديرا عالميا بعد مماته، مما خلد اسمه في تاريخ الأدب (6).
فمما يدخل السعادة على الأطفال أيضا أن يحكي الآباء والأمهات لأطفالهم حكايات على هذا الشكل تكون لهم منارات مضيئة على الطريق، توسع مداركهم وتفتح لهم الآفاق.
تربية تعمق الألم
في بعض الأحيان إذا لم نكن على علم بإحساس الأطفال نتيجة الظروف التي يعيشونها، خاصة ذلك الذي لا يستطيعون التعبير عنه لا بصريح البكاء ولا بتلميح الكلام، أو علمناه وتجاهلناه فسنظلمهم كثيرا، ففي الوقت الذي نظن أننا بتوجيهاتنا الصارمة ونصائحنا المباشرة نربيهم نكون في الحقيقة نعمق آلامهم ونجعل منهم شخصيات كئيبة ومنطوية، ونحسب ذلك منهم تحايلا وكسلا.
لا يمكن أن يدرك أحدنا وهو سعيد بالقرب من والديه مدى إحساس من فقدهما معا أو أحدهما؛ سواء بالبعد أو الموت، كم يكون الإحساس صعبا جدا وخاصة على الأطفال. ولظروف طارئة في الحياة قد يتحتم على أطفال أن يقودهم القدر ليعيشوا في أحضان أقاربهم من أعمام وعمات، وأخوال وخالات، وأجداد وجدات، فيحاول البعض من هؤلاء الأقارب أن يبرهن على مدى تمكنه من أساليب التربية لكنه يخطئ عندما يقسو ويجرح، فبدل أن يستحضر ظروف من قاده القدر إليه فيقدر المشاعر والعواطف يحمل عصا الصرامة التربوية آمرا وناهيا ليعمق جرح الآلام أكثر. وكان يكفيه، كي تتسم تربيته بالرفق والرحمة، أن يضع نفسه مكان الأطفال وقد فقدوا أغلى شيء في الحياة؛ الوالدين معا أو الأم أو الأب.
نقول لهؤلاء إن كان أولادنا الذين هم من أصلابنا يستحقون منا الحنان، فهؤلاء الأطفال يستحقون منا الحنان أكثر والعطف أكثر. فـ“ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا”، و“أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة” قالها صلى الله عليه وسلم وأشار إلى سبابته والإبهام، صدق من بُعث رحمة للعالمين.
خاتمـة
إن تربية الأطفال على الحب لا تقل أهمية عن تربيتهم على أخلاق أخرى مثل الصدق والوفاء والإحسان، إن لم نقل هو العمود الفقري في سلسلة فقرات الأخلاق، فإن لم يكن الإقبال على الأخلاق من قبل الأطفال بدافع من الحب وبحافز منه فهو التزام عن إكراه وإجبار وليس عن اقتناع واختيار، وهذا ما لا يجعلهم في مأمن من النفاق والوقوع في الأخطاء، أما إن أقبلوا على الأخلاق بدافع من الحب لأنها فضائل من صلب ديننا، وأعمال نثاب عنها عند ربنا، فأكيد أنها ستترسخ لتصبح سلوكهم اليومي والدائم، وهكذا كل الأعمال الأخرى المدرسية والمنزلية والاجتماعية في حياة الأطفال.
(1) رواه الإمام الطبراني في الأوسط والكبير.
(2) أليفي ربول، فلسفة التربية، ترجمة: عبد الكبير معروفي، ط1/ دار توبقال للنشر، ص: 27.
(3) رواه الإمام البخاري رحمه الله.
(4) رواه الإمام أحمد والترمذي رحمهما الله.
(5) رواه الإمام البخاري رحمه الله.
(6) ديل كارينجي، 25 شخصية غيرت مجرى التاريخ، ط 2011/1، دار الخلود للتراث.