أعتقد أن السيرة النبوية محطات في رحلة الحياة أكثر من كونها تاريخ مضى وانتهى، لا تستطيع أن تقرأها إلا وأنت غارق في مداد المحبة التي في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هي كنز عظيم بين أيدينا وبوصلة.
وهكذا أرى أن في حياة كل واحد منا (غار) يولد فيه القلب، و(طائف) ترميك بالحجارة والجحود، و(هجرة) تحملك وتحمل عنك..
في منتصف الطريق ستجد عقبة لتقتحمها، وقد تهفو نفسك للسهول الواطئة مرتعا وقناعة..
ستهاجمك جيوش من اليأس والإحباط وبرودة العزائم، فتحفر (خندقا) تحمي به فهمك وقلبك وإرادتك. ثم تأتي اللحظة التي تجد نفسك وحيدا قليلا أمام جيوش العادة الجارفة والأنانية المستعلية والذهنية الرعوية لتخوض معركة (بدر) الخاصة بك، فيكون هذا اليوم فرقانا بين أمسك وغدك. وقد تفاجئك هزيمة غير متوقعة بعد أن نزلت من (جبل) يقظتك فيتزعزع ثباتك وتحس بمرارة كمرارة (أُحد) لكنك لا تلتفت، لأن الأهم هو اليوم الذي يلي هذه الهزيمة، فكم من هزيمة انتصار وكم من نصر هزيمة.
ثم يأتي (الفتح) لأن النصر مع الصبر وأن مع العسر يسرا، فتسبح باسم ربك وتصلي له وأنت مدرك أن الله كان معك كما كان مع أهل بدر الذين فازوا بوسام “لعل الله اطلع عليهم فقال افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم”.
تنظر حولك فتجد العالم يتكالب لإطفاء هذا النور فيطمئن قلبك حين تدرك أنما أوصَل إلينا هذا الدِّين ثلاثمائة رجل، منهكين جائعين، أذلة على ضعف وقلة عدد وقلة عُدد، خرجوا غير مستعدين لمعركة فاصلة لكنهم ثبتُوا وصبروا وصابروا فانتصروا. هؤلاء الرجال في ذلك اليوم الجليل لم يكونوا صائمين فحسب، لقد كان رمضانهم اﻷول أيضا.
ثم يقدر الله أن تفاجئك ذكرى يوم بدر هذه السنة وأحداث جسام تدور بالمسجد الأقصى وأكناف المسجد الأقصى، فتدرك أن هذه الأيام بتفاصيلها وأحداثها تضَعُكَ في مواجهة نَفسِكَ سائلًا؛ عن معنى وجودك وطموحك وطريقك وحياتك بكاملها.. فتقتنع أن كل هذه المشاهد المؤلمة الموجعة، من قتل وإبادة وإجرام التي تشاهدها يوميا، إن لم تُحرّك فيك شيئًا وتُغيّر بمسارك أمرًا، وتنتزع قلبك من غفلةٍ كان بها، فأنت لا قلب لك.
تتأمّل سنن اللّه وتدبيره، تنظر في الآيات طويلًا، تبحث في أحداث السيرة لتفهم تفاصيل ما حدث وعاقبة ما حدث، فيطمئن قلبك إلى أن ما يحدث هذه الأيام غير عادي، فيه بعض من بركات ونفحات بدر. وفي خضم بحثك ستفاجأ بقصة جميلة لأحد المبشرين بالجنة سيدنا سعيد بن زيد.
هذا الصحابي الجليل من العشرة المبشرين بالجنة، شهد كل الغزوات مع رسول الله ﷺ إلا غزوة بدر، وذلك أنّ رسول الله ﷺ أرسله لملاحقة عير قريش التي كانت تحت قيادة أبي سفيان، فلما عاد سعيد بن زيد إلى المدينة كانت قد انتهت معركة بدرٍ وانتصر المسلمون فيها. بدا على وجهه رضي الله عنه بعضا من الضيق لغيابه عن هذا الحدث العظيم، فكر النبي صلى الله عليه وسلم أن يطيب خاطر سعيد، فأخذ منه قوسه وضرب له سهما وأصبح كأنه شهد بدرا، وصار بدريا ولو لم يحضر بدرا.
السيرة ليست أحداثا مرت وانتهت، بل هي فعل جديد متجدد عبر الأزمان حتى إن الله يبعث كل مئة سنة من يجدد.. فقط، تذكر أنك لا شيء ولابد منك، ومن مات ولم يفز بالله فلا نهاية لحسرته..
والّذي يَحلُم بيوم كيوم بدر، يَراهُ في كُلّ شَيء، ويُعِدّ لَهُ كأنَّه كُلّ شيء! والّذي يَطلُبُ الجَنّة يَسعىٰ لها، «إِنَّا نُبَشِّرُكَ»، فاستَبشِر.