محايدة الأفكار والممارسات تصبح عسيرة جدا على من لا يقدر لجم انفعالاته، وإيجاد توازن بين عقله وقلبه، لا سلطان للهوى ولا هوس للفكر، نشدان الكمال من هذا وذاك يحققه ذكر الله عز وجل.
قد يستغرب البعض من هذه النتيجة، أو قد يزدري قدرها من لم يعتقد في أعماق إيمانه أن بناء الشخصية الإيمانية ليس بالضرورة كبنائنا الذي نعيش فيه، وما يزال الإنسان يجدد ويبتكر في عالم الهندسة لينبهر من شكل الخلية، وينفذ إلى مسكن النمل فيدرسه… صنع الله الذي أتقن كل شيء، فيعيد العبقري المعجب بإبداعه مراجعة مسلماته، والاعتراف بنقائصه.
لبنة في بناء الأمة تتمايز وتتوهج وترتفع بالعطاء والسابقة و”شيء وقر في الصدر”، أمور كلها منبتها التعرض الدائم لعطايا الكريم الوهاب عز وجل، يهب لمن يشاء، متى يشاء، ما يشاء، ذكر الله عز وجل بداية ونهاية، هو وقود السير ونور الإدلاج. وليس من الصعب أيضا فهم أو استيعاب أهمية الذكر وآثاره، ليقف أمام الفعل عقبات، وأمام الانضباط سهول وهضاب ووديان من المصابرة، وأحيانا كثيرة أهوال وهي ما يطلق عليه الوصف الرباني القرآني “الابتلاء”، يقول عز وجل: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُم (سورة محمد، 31)، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (العنكبوت، 2).
سنة إلهية هو الابتلاء، لمن آمن قولا ولا يزال قلبه لم يحتمل المعنى الشريف لهذا التكليف، ولكل مقام برهان للصدق يجب على طالبه أن يؤديه، لا بمعنى الإجهاد والإجحاف، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ولكن بمعنى التأهيل والاصطفاء، يقول عز وجل: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا (العنكبوت، 69)، وهنا تتجلى بين ثنايا الطريق نبضات الحب، فهي الدافع الرافع، يقفز بالسائر بين المحطات ليجاوز العقبات أسرع مما يتصور، حب الله والحب في الله، يحدو بالذاكر المصابر، عطاء وأي عطاء أن يستيقظ في قلب مريد وجه الله عز وجل فيبصر بعد عمى.. ويستقيم بعد اعوجاج!
يرتقي في مراتب الحب ارتقاءَه في مدارج الإيمان، فيحب المرء لا يحبه إلا لله، ويعطي لله، ويمنع لله… يرى إحسان الله له في كل شيء، فيعبد الله كأنه يراه؛ مقام علوي سني يعود بعده الذاكر متأملا في حال خِلقته، مبصرا في نفسه، شاكرا لربه، قاصدا في مشيه، عامرا بربه.
ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون (العنكبوت، 45)، حينما يتعلق الأمر بالذكر فالمفترض فيه كثرته، والتحفيز فيه على مغالبة حال أهل النفاق الذين وصفهم الله عز وجل فقال عز من قائل: ولا يذكرون الله إلا قليلا (النساء، 142). استحضار الآخرة ذكر، وغلبة الندم على ماضي التفريط وتجديد التوبة ذكر للمصير وخوف من الجليل عز وجل، وإن الله يرتضي لأحبابه أشرف الأعمال ويحذرهم من الاقتراب من هوة التقليل والتفريط، فالركب سائر ليله ونهاره، ولابد من زاد للوصول ومن ادخار للمحصول.
وإذا ما تتبعنا ذكر مفردة “قليل” في كتاب الله عز وجل، وجدنا أن القلة المؤمنة الذاكرة الله كثيرا تغلب الفئة الكبيرة عددا القليلة ذكرا لمولاها عز وجل، وفي الحديث الشريف الذي أخرجه ابن أبي الدنيا مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أي أهل المسجد خير؟ قال: “أكثرهم ذكراً لله عز وجل”. قيل: أي الجنازة خير؟ قال: “أكثرهم ذكرا لله عز وجل”. قيل: فأي المجاهدين خير؟ قال: “أكثرهم ذكرا لله عز وجل” قيل: فأي الحجاج خير؟ قال: “أكثرهم ذكرا لله عز وجل”. قيل: وأي العُبَّاد خير؟ قال: “أكثرهم ذكرا لله عز وجل”.
وفي عقد الصحبة الإيمانية تتمتن الوصية بالمحافظة على ذكر الله كونه قلبا لجسدها الحي مادام الذكر فيها حيا سائرا بين الأفراد المتحابين في الله، وفي وصية الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله نتلمس هذا الأمر إذ يقول: “وأوصي بذكر الله في الملإ والخلاء، وأوصي بالذكر كما هي مفصلة آحاده في خصلة الذكر”، وهو أيضا يسمعنا من خلال رسالة النصيحة لمن وعى نصح طبيب للقلوب قائلا: “فما يقول جليس فينا ليس له ورد من الذكر، ولا جلسة استغفار بالأسحار؟ كيف يُنتظر ممن لا زمام يمسكه عن التسيب في الأوقات من ورد لازم، وجلوس للذكر عازم، أن يرقى إلى مقام دوام الذكر ودوام التضرع ودوام الطلب؟ يفتر الطلب، وتتفتت العزيمة، وينقطع الحبل إن لم يكن الورد دواما ومداومة وصبرا ومصابرة، بعد ذلك فقط نتحدث عن الصبر في الغد الجهادي لا قبله”.
ذكر الله عز وجل فاضت أسرار المحبين في وصفه، وزادت بركاته عن عده وحصره، فهو ماء حياة القلب، وهو سر الحضور مع الرب عز وجل، رفع الله ذكرنا عنده. آمين.