في ذكرى الوعد المشؤوم

Cover Image for في ذكرى الوعد المشؤوم
نشر بتاريخ

كلما حل الثاني من شهر نونبر إلا وحلت معه ذكرى وعد بلفور التي قررت فيها بريطانيا المستعمرة لبلاد العرب والمسلمين منح ما لا تملكه، ألا وهو أرض فلسطين المباركة، لأشتات من العالم تائهون في الأرض يسمون بالشعب اليهودي.

ما كانت بريطانيا ولا غيرها من قوى الشر والاستكبار العالمي لتقدم على فعلتها تلك، لولا ان ظروف الزمان والمكان كانت تشهد حينها وقائع وحيثيات مساعدة على قبول ونجاح المخطط الصهيوني الاستعماري، الذي يبدو أنه كان يدبر بليل مظلم طويل، بدأ منذ مطلع القرن التاسع عشر مع موجة الغزو الإمبريالي الغربي لقارتي إفريقيا وآسيا، وشرع في تنفيذه إبان الحرب العالمية الأولى بإبرام اتفاقية سايكس بيكو السرية بين فرنسا وإنجلترا.

من هذه الحيثيات التي شجعت البريطانيين على التصريح بإعلانهم المشؤوم؛ ظهور طابور خامس بالبلاد العربية يقاتل إلى جانب قوات الحلفاء ضد خصومهم في الحرب العالمية الأولى والتي كان من بينها الإمبراطورية العثمانية. هذا الطابور الخائن كان بزعامة ٱل الحسين بن علي الذين مازال فرع منهم يحكم الضفة الشرقية لنهر الأردن تحت مسمى المملكة الأردنية الهاشمية. ولولا خيانة العرب هذه للدولة العثمانية الحامية ما ضاعت فلسطين وما تمكن منها الصهاينة برعاية واحتضان بريطانيا، التي تمت شرعنة سيطرتها على المنطقة بمباركة عصبة الأمم والتي كانت تعكس قوة ومصالح المنتصرين في الحرب.

إن إشهار البريطانيين لوعدهم المقطوع للصهاينة ما كان ليخرج إلى عالم السياسة والإعلام لولا أن القوات البريطانية كانت فعلا قد بدأت أقدامها تطأ مشارف أرض فلسطين، بحيث أنه بعد أسبوع من وعد بلفور في الثاني من شهر نونبر 1917 وصلت أولى قواتها المدينة المقدسة بيت المقدس ودخلتها في التاسع من الشهر نفسه. ليظهر ذلك بكل وضوح أن قرار وزير الخارجية البريطاني كان فقط تعبيرا عن واقع حال يشهده الميدان في بلاد المشرق العربي، ويتمثل في تقدم قوات الحلفاء وخاصة البريطانيين بدعم ومساندة من عرابيهم المحليين فيالق العرب التي يقودها الأميران فيصل وعبد الله أبناء الحسين بن علي.

كما أن قرار بريطانيا بمنح فلسطين لليهود لإقامة وطن قومي لهم جاء تجسيدا لمصالح متبادلة مع نخبة صهيونية متمكنة في عالم المال والنفوذ، وبدأت بالفعل في طرح بعض من مطالبها وشروطها على القوى المهيمنة عالميا في تلك الفترة، وفي مقدمتهم بريطانيا. ومن أبرز وجوه وزعماء هذه العصابة الصهيونية حاييم وايزمان، أول رئيس للكيان الصهيوني سنة 1947م، الذي ساعد بريطانياً على تقوية قدراتها العسكرية من خلال أبحاثه العلمية المتعلقة بتطوير المتفجرات، وكان يومها أحد قادة الحركة الصهيونية العالمية. فجاء القرار البريطاني مكافأة له.

تلتقي إذن الخيانة العربية بالتطورات العسكرية الميدانية وحماسة وتفاني الصهاينة في تجسيد مشاريعهم العنصرية الهمجية لتتبلور مجتمعة في قرار بلفور، الذي يرى فيه أصحابه بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وفي الجهة الأخرى سيكون ذلك بداية دهور وعقود من المحن والكوارث التي حلت بمنطقة المشرق العربي وبدرجة أكبر بفلسطين وشعبها المقاوم الصامد، بل ومازالت المحنة مستمرة والنزيف جاريا حتى يوم الناس هذا، حيث تتعرض فلسطين وخاصة منها قطاع غزة للمجازر المروعة التي مست الأطفال والنساء والشيوخ ولم تستثن الحجر والشجر والحيوان.

إن القرارات السياسية تسندها الوقائع الميدانية، ولا معنى لأي قرار ولا أثر له في الواقع إن لم تكن له قوة عسكرية ميدانية تنجزه عمليا وتثبته، وإن صمود الشعب الفلسطيني على أرضه وثبات مقاومته في الميدان كانا عاملين حاسمين في إفراغ قرار بلفور من محتواه سابقا، وكفيل كذلك اليوم بإسقاط كل الخيانات والمكائد المحلية والدولية.