في كلّ مرّة كان يُحسّ فيها نبيّنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ببعض الضّيق كان ربّنا يُطيّب خاطره ويُسعده بإهدائه معانيَ لم تكن في حُسبانه ولا خطرت على باله؛ وتكفي سورة الضحى نموذجا لهذا الذي نقوله؛ فقد وعده الله تعالى بأنه “سوف يُعطيه حتّى يرضى”، رضاءً تاما كاملا في نفسه وأهله وأمّته، ردّا على حالة نفسية هجمت عليه جرّاء تأخر الوحي عنه، وما استتبع ذلك من تهكّم بعض القرشيين واعتقادهم بأن “ربّه قد تودّعه”.
أما المثال الثاني فنضربه بحادثة حصلت له في مثل الزمن الذي نعيشه اليوم، على أغلب الرّوايات، أقصد شهر رجب الخير. ففي مثل هذه الأيام أسْري به ـ صلّى الله عليه وسلم ـ وأعرج به، في حكاية طويلة جدا، لم يُرو منها سوى القليل، ويكفينا نحن ذلك القليل، ففيه الخير والبركة والعُلُوّ.
البداية تعود بنا إلى “الطّائف”؛ تلك البلدة التي كان أهلها في غاية الخسّة مع رجل قدم عليهم يعرض عليهم نفسه ودعوته مقابل السّؤدد في الدّنيا والآخرة، ولكنّهم ـ لسفالتهم، ولأنّ الله تعالى لم يشأ أن يصيبهم هذا الشّرف العالي ـ ردّوه بأسوأ ما عرفه نبّينا صلى الله عليه وسلم، حتى أنّهم أغروا به أطفالهم وسفهاءهم ليتحرّشوا به؛ فرموه بالكلام الجارح والحجارة. كانت قلوبهم ـ والعياذ بالله ـ قطعة من الجحيم، وحده غلام حنّ عليه وإليه لحظة سمعه يدعوا بكلام وصلنا باعتباره أحد أجمل وأسمى ما دعا به صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أشكوا إليك ضعف قوّتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين. أنت رب المستضعفين، وأنت ربي. إلى من تكلني؛ إلى بعيد يتجهّمني، أو إلى عدوّ ملكته أمري. إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالِ، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، مِن أن تُنزِل بي غضبك، أو تُحِلَّ علي سخطك، لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك».
أما “الطائف” فقد خرج منها كّذّاب ومُبير!
لم تتأخّر الهديّة والتّكريم؛ فجاءته العظمة والفخامة كما يليق بحبيب الرّحمن وسيد الأنبياء، إذ أُسْريَ به إلى المسجد الحرام، ثم عُرج به إلى العلا حتى بلغ سدرة المنتهى، إلى مكان ما عاد أحد غيره من المخلوقات يقدر على التّقدم إليه، بمن فيهم سيّد الملائكة جبريل عليه السلام.
اختلفت الأقوال ـ حقيقة ـ في مكان الانطلاقة، كما في زمن حصوله، كما في كيفيته، ولكنّ كلّ ذلك لا يضيف للحكاية شيئا ولا ينقص.
لم يقطع نبيّنا مَسافة كما يتوهّم البعض، ولكنّه “انتقل من بُعْد إلى بُعد آخر”؛ لأنّنا نؤمن أنّ “كلّ العوالم” موجودة “هنا والآن”، وهذا من جملة ما كان سببا في نُكران أهل مكّة للواقعة. وخلال رحلته ـ والاختلاف الحاصل بين الأكابر هل وقعت بالجسد والروح أم بالروح فقط لا يقدّم من الأمر شئا ولا يؤّخر، فهذا لا شيء أمام القدرة الإلهية المطلقة ـ خلال رحلته شاهدَ ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهذا التعبير كاف ليؤشّر على عجائبية المعاني التي رآها نبيّنا ليلتئذ.
عند عودته ـ صلى الله عليه وسلم ـ أراد أن يخرج إلى النّاس ليخبرهم بالقصّة، ولكن ابنة عمّه، أم هانئ، كان لها رأي مختلف، أرادت ثَـنْـيَهُ عن قصده، قالت له: “أخشى أن يكذبك قومك”، ولكنّ ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ قدّر تخوّفاتها، دون أن ينزل عند رأيها، وقطع بالقول: “وإن كذّبوني”! كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ثقة تامّة بقضيّته وحكايته، ولهذا لم يتّخذ من هذه المعجزة حجّة على صدقه وصدق رسالته، كان دائما يتّكئ على “طبيعة دعوته ومنهاجها” كما يقول سيّد ـ بحق ـ في “الظلال”، فدعوة الإسلام تعترف بالخوارق والكرامات والمعجزات، نعم، لأنّ الإيمان بالغيب من صميم الدّين، ولكنّها لا تعتمد على ذلك في إثبتات صدقها.
فرح مشركو قريش بما قصّه نبيّنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنّهم اعتبروا ذلك فرصة ذهبيّة للتّشكيك في ما جاءهم به، وبالفعل ارتدّ أقوام، وتشكّك آخرون، ولكنّهم ـ الشّياطين ـ كانوا يقصدون بتشكيكهم “رأسًا كبيرة”؛ توجّهوا في فرح إلى أبي بكر، واستعرضوا أمامه بكثير من الفكاهية ما سمعوه من صاحبهم محمد، ولكنّه ـ رضي الله عنه ـ أبكمهم وأفحمهم بردّ غدا بعد ذلك تاريخيا؛ فقد كان يكفيه أن يتثبّت منهم بأن ما سمعه منهم قد قاله محمد فعلا دون زيادة أو نقصان، ومن أجل ذلك سمّاه نبينا بـ”الصّدّيق”، ومن أجل ذلك سيختاره للهجرة معه في تلك الرّحلة الأخرى التي قلبت تاريخ البشرية.