قبسات من سيرة الحسين بن علي رضي الله عنهما: الاستقامة على الأمر ومدافعة الظلم

Cover Image for قبسات من سيرة الحسين بن علي رضي الله عنهما: الاستقامة على الأمر ومدافعة الظلم
نشر بتاريخ

1. مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، أولائك الذين لزموا باب الاستقامة، وساروا لا يرضون لأمتهم غير حياة العزة والكرامة، ورضي الله على الذين اتبعوا طريقتهم وجاهدوا جهادهم وهم يرجون الله أن يمكّن لهم دينهم في الحياة الدنيا ويُحلّهم في الآخرة من فضله دار المُقامة، وبعد:

روى الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ أَوْ أُمِّ سَلَمَةَ – قَالَ وَكِيعٌ: شَكَّ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ – أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِإِحْدَاهما: “لَقَدْ دَخَلَ عَلَيَّ الْبَيْتَ مَلَكٌ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيَّ قَبْلَهَا، فَقَالَ لِي: إِنَّ ابْنَكَ هَذَا حُسَيْنٌ مَقْتُولٌ، وَإِنْ شِئْتَ أَرَيْتُكَ مِنْ تُرْبَةِ الْأَرْضِ الَّتِي يُقْتَلُ بِهَا” قَالَ: “فَأَخْرَجَ تُرْبَةً حَمْرَاءَ” 1.

يعدّ الحسين بن علي عليهما السلام رمزا من رموز التاريخ الإسلامي، وعلما من أعلام التقوى والجهاد، عُرف بمواقفه في الثبات على الحق ورفض الخضوع والاستسلام، فنال بذلك محبة واحترام كل مؤمن يتوق إلى التحرر من الجور والاستبداد.

وكيف لا يحب المؤمن رجلا اصطفاه الله ليكون قدرا من أقداره في مجابهة الظلم والظالمين، ورفض الضيم وإعطاء الذلة من الدين، رجلا تمثلت فيه معاني السلوك الجهادي علما وعملا، ذكرا وجهادا، استقامة على طريق الحق ونصرة الحق مهما اشتد الخطب وعظُم البلاء.  

2. نشأة الإمام الحسين ومكانته والعوامل المؤثرة في تربيته

الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب وابن فاطمة الزهراء بنت رسول الله ﷺ، هو سبط النبي محمد ﷺ، وأحد سيدي شباب أهل الجنة، وأحد أئمة أهل البيت الذين أُمر المسلمون بمودّتهم، وأحد آل البيت الذين نتقرب إلى الله بالصلاة عليهم.

وُلد في المدينة المنورة سنة 4 هـ، وأذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أذني الحسين بعد ولادته. وكان علي بن أبي طالب يريد تسميته حربًا، فسماه النبي ﷺ حسينًا. كفلته أم الفضل امرأة العباس بن عبد المطلب وأرضعته بلبان ابنها قُثُم 2.

وكان منذ صغره موضع محبة وملاطفة من رسول الله ﷺ، الذي قال فيه: (حُسَيْنٌ ‌مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ، أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ حُسَيْنًا، حُسَيْنٌ سِبْطٌ مِنَ الأَسْبَاطِ) 3. وعند الترمذي من حديث أنس أن النبي ﷺ سُئِلَ أَيُّ أَهْلِ بَيْتِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: (الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ). وَكَانَ يَقُولُ لِفَاطِمَةَ (ادْعِي لِيَ ابْنَيَّ، ‌فَيَشُمُّهُمَا وَيَضُمُّهُمَا إِلَيْهِ) 4.

ولم يكتف النبي ﷺ بالتصريح بمحبته له ولأخيه بل كان ﷺ يرغّب المسلمين في محبتهما ويحذر من بغضهما. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحبَّهما فقد أحبَّني، ومن أبغضَهما فقد أبغضَني -يعني الحسَنَ والحُسَينَ-) 5.

وقد ثبت أن رسول الله ﷺ كان يعوذ الحسن والحسين وهما صبيان فيقول: (إنَّ أَبَاكُما – إبراهيم عليه السلام – كانَ يُعَوِّذُ بهَا إسْمَاعِيلَ وإسْحَاقَ: أَعُوذُ بكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِن كُلِّ شيطَانٍ وهَامَّةٍ، ومِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ) 6.

نشأ الحسين عليه السلام في بيت النبوة، وتربى على قيم الإسلام الراقية ومُثله السامية من الصدق والوفاء والعدل والشجاعة، وورث عن أبيه علي كرم الله وجهه ببركة طول الملازمة والصحبة أخلاق الإسلام النبيلة وصفات الإمامة الحقة ومقومات السلوك الإحساني الراشد.

3. استقامة الحسين رضي الله عنه

كان الإمام الحسين بن علي مثالًا في العلم والتقوى والورع، عُرف بزهده وعبادته، وكان من كبار أهل الفتوى في عصره، وله مواقف بارزة في الدفاع عن مبادئ الدين الإسلامي. وقد ورث عن جده رسول الله ﷺ، وأبيه الإمام علي، وأمه فاطمة الزهراء رضي الله عنهما، صفاء العقيدة ونور الفقه وزهد الصالحين.

قال عنه ابن عبد البر في الاستيعاب: (كان الحسين فاضلا ديّنا كثير الصيام والصلاة والحج) 7.

وفيما يلي بعض المواقف التي تُبرز جوانب من استقامته وتقواه وجهاده:

– عبادته وتقواه:

كان الإمام الحسين من العُبّاد، يحرص على قيام الليل، يجد راحته في الصلاة وتلاوة القرآن، ويكثر من الذكر والدعاء والاستغفار حتى في أوقات الشدة.

في كربلاء، بعدما حاصرته جنود عبيد الله بن زياد، كان يرجو من أعدائه أن يقبلوا تأجيل القتال ولو لليلة واحدة حتى يختم القرآن ويكثر من الدعاء والصلاة. قال الحسين عليه السلام لأخيه العباس: “ارجع فارددهم هذه العشية، لعلنا نصلي لربنا هذه الليلة وندعوه ونستغفره، فقد علم الله مني أني أحب الصلاة له، وتلاوة كتابه، والاستغفار والدعاء” 8.

وذكر ابن الأثير أن “الحسين عليه السلام حج خمساً وعشرين حجة ماشياً” 9.

وكان أصحاب رسول الله ﷺ يعرفون قدر ومنزلة الحسين عليه السلام لِما خصه المولى عز وجل من وقار وسمت حسن واستقامة على الأمر. وهذه شهادة بعض منهم:

عن العيزار بن حريث قال: بينما عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة إذ رأى الحسين بن علي مقبلا فقال: “هذا أحب أهل الأرض إلى أهل السماء اليوم” 10.

وعن جابر بن عبد الله قال: “‌مَنْ ‌سَرَّهُ ‌أَنْ ‌يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُهُ” 11.

– وفاؤه بالعهد:

عُرف الحسين عليه السلام بوفائه بالعهد وحفظه للوعد، وقد عاش في المدينة لا ينكث عهدا أُبرِم ملتزمًا بعدم إثارة الفتن. ولعل أبرز مثال على ذلك، رفضه لنقض العهد الذي كان في عام الجماعة، بعدما تنازل أخوه الحسن عليه السلام عن إمامة الأمة لمعاوية بن أبي سفيان حقنًا للدماء. ورغم معارضته لهذا التنازل في بداية الأمر وأنه وقع بغير رضاه، إلا أنه التزم بقبوله طوال حكم معاوية ولم يدع للخروج عليه، بل كان يقف ضد مؤيديه الذين تحمسوا للخروج على معاوية ويدعوهم إلى الصبر ولزوم الجماعة والابتعاد عن إثارة الفتنة.

جاءه بعض المعارضين طالبين منه مخالفة أخيه والتراجع عن الصلح المعقود مع معاوية فرفض وقال: (إنا قد بايعنا وعاهدنا ولا سبيل لنقض بيعتنا) 12.

– مكانته العلمية:

كان الحسين عليه السلام فقيها متمكنا وعالما مبرزا ومفتيا موفقا، وكان الصحابة والتابعون يرجعون إليه في المسائل الفقهية. قال معاوية لرجل من قريش: “إذا دخلت مسجد رسول الله ﷺ فرأيت حلقة فيها قوم كأن على رؤوسهم الطير، فتلك حلقة أبي عبد الله مؤتزرا على أنصاف ساقيه. ليس فيها من الهزيلا شيء” 13.

قال عنه ابن كثير: “فإنه ‌من ‌سادات ‌المسلمين وعلماء الصحابة، وابن بنت رسول الله ﷺ التي هي أفضل بناته، وقد كان عابدا وشجاعا وسخيا” 14.

ويقول عنه الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “كان الصحابة أمثالُ الإمام حسين رضي الله عنهم أعلَم العلماء لم يقلدوا غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجوا على الظالمين” 15.

– كرمه وتواضعه:

كان التواضع ولين الجانب والجود والكرم سمات بارزة في الحسين رضي الله عنه، يخالط الفقراء ويجالس الضعفاء، ويكرم المحتاج وينفق بسخاء.

عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: “مر الحسين بمساكين يأكلون في الصفة فقالوا الغذاء، فنزل وقال: “إن الله لا يحب المتكبرين”، فتغذى معهم ثم قال لهم قد ‌أجبتكم ‌فأجيبوني. قالوا: نعم. فمضى بهم إلى منزله فقال للرباب أخرجي ما كنت تدخرين” 16.

– جهاده لنشر دعوة الإسلام:

التحق الحسين عليه السلام في عهد ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه بالجهاد في إفريقية تحت قيادة عبد الله بن أبي السرح، وفي سنة 30هـ غزا الحسن والحُسين وابن عباس طبرستان تحت قيادة سعيد بن العاص.

ولما آلت الخلافة لأبيه علي بن أبي طالب كان عونًا له في كل المواقف، في معركة الجمل وصفين وفي قتال الخوارج. وكان أسمى أمانيه طلب الشهادة في سبيل الله.

قال في خطبته حين حاصره عمر بن سعد بجنوده يوم كربلاء: “ألا ترون الحق لا يعمل به والباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله، وإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما” 17 وهذا يدل على رغبة جامحة في نيل الشهادة في سبيل الله، واستهانته بالحياة الدنيا الفانية.

هذه المواقف تظهر أن الإمام الحسين لم يكن فقط صوتا غاضبا على الظلم وسيفا مناهضا للاستبداد، بل كان عالمًا، زاهدًا، متواضعًا، ورعًا، حيّ القلب، مُحبًا للخير والناس.

4. مواقف الحسين رضي الله عنه من الظلم

كان الحسين عليه السلام إلى جانب ورعه وتقواه لا يضعف أمام المستكبرين، يأبى الضيم ويرفض الظلم ولا يسكت عن حق هُضم ولا عن حرمة انتهكت، فهو نموذج للقائمين لله الشاهدين بالقسط. يرى فيه الإمام عبد السلام ياسين نموذج القومة لله التي تنبذ الجور وتقاتل في سبيل الله والمستضعفين: “الإمام حسين بن علي عليهما السلام هو النموذج لولا أن «الجماهير» خانته. وفي خيانتهم درس” 18.

وهذه بعض المواقف البارزة من حياة الإمام الحسين عليه السلام، تظهر شجاعته في الحق وقوته في دفع الظلم:

– موقفه من مصاهرة معاوية:

كانت المصاهرة إحدى الوسائل التي يرجى منها تثبيت أركان الحكم وضمان ولاء الأطراف المنافسة، وهذا ما سعى إليه معاوية ليقرب الشقة بين بني أمية وبين أبناء علي بن أبي طالب. لكن الحسين عليه السلام كان مستشعرا لوجود مآرب أخرى في رغبة معاوية في مصاهرة آل البيت، فيصر على رفضها مهما تطلب الأمر.

خطب معاوية بن أبي سفيان ابنة عبد الله بن جعفر على يزيد بن معاوية. فشاور عبدُ الله حسينا فقال: “أتزوجه وسيوفهم تقطر من دمائنا؟ ضمها إلى ابن أخيك القاسم بن محمد” 19.

– شجاعته في الحق:

قدم المسيب بن نجبة الفزاري -أحد زعماء الكوفة- وعدة معه إلى الحسين بعد وفاة الحسن فدعوه إلى خلع معاوية وقالوا: قد علمنا رأيك ورأي أخيك، فقال: “إني أرجو أن يعطي الله أخي على نيته في حبه الكف وأن يعطيني على نيتي في حبي جهاد الظالمين” 20.

وكتب مروان بن الحكم إلى معاوية: “إني لست آمن أن يكون حسين مرصدا للفتنة وأظن يومكم من حسين طويلا. فكتب معاوية إلى الحسين: إن من أعطى الله صفقة يمينه وعهده لجدير بالوفاء، وقد أنبئت أن قوما من أهل الكوفة قد دعوك إلى الشقاق وأهل العراق من قد جربت قد أفسدوا على أبيك وأخيك فاتق الله واذكر الميثاق فإنك متى تكدني أكدك. فكتب إليه الحسين: أتاني كتابك وأنا بغير الذي بلغك عني جدير، والحسنات لا يهدي لها إلا الله، وما أردت لك محاربة ولا عليك خلافا، وما أظن لي عند الله عذرا في ترك جهادك ولا أعلم فتنة أعظم من ولايتك أمر هذه الأمة. فقال معاوية: إن أثرنا بأبي عبد الله إلا أسدا” 21.

– رفضه لمبايعة يزيد بن معاوية:

عندما مات معاوية بن أبي سفيان سنة 60 هـ، كان قد أوصى بالخلافة لابنه يزيد، وهو ما اعتبره الإمام الحسين خروجًا عن الشورى الإسلامية وتحويلاً للخلافة إلى ملك وراثي. رفض الحسين مبايعة يزيد، لأنه رأى فيه شخصًا غير مؤهل دينيًا وأخلاقيًا لقيادة الأمة. فآثر كل من عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس بيعته خشية الفتنة. أما عبد الله بن الزبير فلم يبايع يزيدًا وكان يرى فضل الحسين عليه، ولكنه من الناحية السياسية كان لا يثق بأهل العراق، فنصح الحسين بعدم الذهاب إليهم والبقاء في الحجاز أو الذهاب إلى اليمن.

كانت الكوفة عاصمة خلافة علي كرم الله وجهه، فجعل أنصاره يراسلون الحسين يطلبون منه القدوم إليهم لينصروه، وهذا كان أحد أسباب خروج الحسين إليهم.

– عزمه على الخروج إلى الكوفة:

خرج الحسين عليه السلام لأجل حفظ الدين من إلغاء مبدأ الشورى وجعل الحكم وراثة، فكان معلمًا للأمة كيف تبذل النفس حفظًا لمبادئها. وكان ابن عمر يقول: “‌غلبنا ‌حسين بن علي بالخروج” 22.

وكتب عبد الله بن جعفر بن أبي طالب إليه كتابا يحذره أهل الكوفة، ويناشده الله أن يشخص إليهم. فكتب إليه الحسين: “إني رأيت رؤيا. ورأيت فيها رسول الله ﷺ، وأمرني بأمر أنا ماض له. ولست بمخبر بها أحدا حتى ألاقي عملي” 23.

هذه النصائح كلها تظهر معرفتهم بخذلان أهل الكوفة وأنهم ليسوا أهلًا للثقة، أما الحسين -رغم كل هذا- أصر على موقفه وعزمه على المضي مضحيا بنفسه إعلاء لمبدأ الشورى العظيم.

– واقعة كربلاء:

في يوم عاشوراء، العاشر من محرم سنة 61 هـ، واجه الإمام الحسين بجيش صغير قوامه نحو 70 من أهل بيته وأصحابه بعدما خذله زعماء الكوفة، جيشًا أمويًا يفوقهم عددًا وعدة بقيادة عمر بن سعد. ورغم علمه بالمصير، رفض الحسين الاستسلام أو مبايعة يزيد.

واستشهد الإمام الحسين مظلومًا عطشانًا، وذُبح هو وأهل بيته وأصحابه في واحدة من أبشع المجازر في التاريخ الإسلامي.

جاؤُوا بِرَأْسِكَ يا ابْنَ بِنْتِ مُحَمّدٍ

مُتَرَمِّلاً بِدِمائِهِ تَرْمِيلا

وكأنّما بِكَ يا ابْنَ بنتِ مُحَمّدٍ

قَتَلوا جَهاراً عامدينَ رَسُولا

قَتَلُوكَ عَطْشَاناً ولَمّا يَرْقُبُوا

في قَتْلِكَ التنزيلَ والتّأْويلا

ويُكَبِّرونَ بِأَنْ قُتِلْتَ وإنّما

قَتَلوا بكَ التّكْبيرَ والتّهْليلاَ 24

كان الحسين يمثل ضمير الأمة الراغبة في التمسك بحقها في منح السلطة لمن يستحقها، فلا يفرض عليها أحد. فالنبي ﷺ أخبرنا أنّ أول ما يتغير من الإسلام الحكم وآخر ما يتغير الصلاة، فتبدل الحكم من الشورى إلى التوريث، فقام الحسين رافضًا هذا التحريف.

رفض الإمام الحسين بيعة يزيد بن معاوية لأسباب دينية وأخلاقية وسياسية، تتعلق بجوهر الإسلام ومبادئ العدل والحق، ويمكن تلخيص هذه الأسباب في النقاط التالية:

– فساد يزيد وسوء سيرته وعدم وجود الأفضلية فيه:

كان يزيد معروفًا بشرب الخمر، والفسق، والاستهتار بأحكام الدين. قال فيه الإمام الذهبي: “وَكَانَ نَاصِبِيّاً، فَظّاً، غَلِيظاً، جَلْفاً، يَتَنَاوَلُ المُسْكِرَ، وَيَفْعَلُ المُنْكَرَ” 25.

والإمام الحسين كان يرى أن من كان كذلك لا يجوز له أن يكون خليفة للمسلمين. وقد قال الإمام الحسين للوليد بن عتبة: “إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، وبنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرّمة، معلن بالفسق ليس له هذه المنزلة، ومثلي لا يبايع مثله” 26.

كان عليه السلام يرفض أن يُجبر على مبايعة ظالم، لأنه كان يرى أن في ذلك خيانة لله وللرسول وللأمة.

– الاعتراض على الحكم الوراثي والحرص على مبدأ الشورى

كان الحسين يرى أن خلافة يزيد ليست نتيجة شُورى أو رضا من الأمة، بل انتقال سلطوي غير شرعي جعل الحكم ملكًا عضوضًا، يُورّث كما يُورّث المال، وهذا ما كان يخالف مبدأ الخلافة الراشدة.

– مسؤوليته كإمام وأحد أعلام الإسلام في زمانه:

الإمام الحسين كان يعلم أن السكوت عن مبايعة يزيد يعني إقرارًا ضمنيًا بظلمه وفساده، وقد اعتبر أن من مسؤوليته الدينية والأخلاقية أن ينهض بالحق، حتى لو أدى ذلك إلى استشهاده.

الإمام الحسين بقومته ضد حكم يزيد واجه تلك الذهنية الرعوية، ذهنية الخمول والطاعة العمياء التي لا تفرق بين أولي الأمر الذين هم منا أو من غيرنا.

– نصرة المظلومين وإصلاح الأمة:

قال الحسين عليه السلام لِعُمَرَ بنِ سَعْدٍ وَجُنْدِهِ: “لَا تَعْجَلُوا، وَاللهِ مَا أَتيتُكُم حَتَّى أَتَتْنِي كُتُبُ أَمَاثِلِكُم بِأَنَّ السُّنَّةَ ‌قَدْ ‌أُمِيتَتْ، وَالنِّفَاقَ قَدْ نَجَمَ، وَالحُدُودَ قَدْ عُطِّلَتْ؛ فَاقْدَمْ، لَعَلَّ اللهَ يُصلِحُ بِكَ الأُمَّةَ” 27.

هذا يبيّن أن رفضه لمبايعة يزيد لم يكن حبا في الاستئثار بالسلطة والإمارة، بل طلبًا للإصلاح والوقوف أمام انحراف الأمة عن خط الإسلام. خصوصا وأن أهل الكوفة أكثروا رسائلهم إلى الحسين. فأرسل إليهم ابن عمه “مسلم بن عقيل”، وطلب منه أن يتبين حقيقة أمرهم، فكتب إليه يقول: “أما بعد، فإن الرائد لا يكذب أهله، إن جميع أهل الكوفة معك، فأقبل حين تنظر في كتابي” 28.

– رفض الذل:

إن التربية التي نشأ عليها الحسين عليه السلام أكسبته الإباء وعزة النفس، فلم يعرف الخور ولا المداهنة إلى نفسه سبيلا. وقد حاولت بعض الروايات أن تشوّه سيرته بزعمها أنه أظهر ندمه وأبدى انكساره بعدما خذله أهل الكوفة وحاصرته جنود عمر بن سعد. إلا أننا نقف في هذا الخبر الذي أورده ابن كثير على تفنيد ذلك.

عن عقبة بن سمعان قال: “لقد صحبت الحسين من مكة إلى حين قُتل، والله ما من كلمة قالها في موطن إلا وقد سمعتها، وإنه لم يسأل أن يذهب إلى يزيد فيضع يده في يده، ولا أن يذهب إلى ثغر من الثغور ولكن طلب منهم أحد أمرين؛ إما أن يرجع من حيث جاء، وإما أن يدعوه يذهب في الأرض العريضة حتى ينظر ما يصير أمر الناس إليه” 29.

لقد صدح لسان الإمام الحسين عليه السلام بما في قلبه من رفض الذل والإذعان لحكم السيف وإمارة الجور، فنادى في الناس في آخر لحظة من حياته: “وَلَا أُعْطِيهِمْ بِيَدِي عَطَاءَ الذَّلِيلِ، وَلَا أُقِرُّ إِقْرَارَ الْعَبْدِ” 30.

الخاتمة

رفض الحسين عليه السلام مبايعة يزيد لأنه كان يرى أن ذلك يُشرعن للفساد، ويُسهم في انحراف الأمة، وهو الإمام الذي تربى في بيت النبوة، وكان صوته يُعبّر عن صوت الإسلام الأصيل في وجه الاستبداد والانحراف.

وهذه دروس من سيرته:

1. سيرة الحسين عليه السلام نموذج للجمع بين الاستقامة ودفع الظلم وراثة كاملة لما جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

2. علّم الحسين عليه السلام المسلمين أن الموت بكرامة خير من العيش في ظل الظلم.

3. تجسّدت في سيرة الحسين عليه السلام في كربلاء أسمى معاني الصبر والثبات على المبدأ.

4. سيرة الإمام الحسين تبقى رمزًا لنصرة الحق وابتغاء العدل والقومة لله في وجه الظلم، ومصدر إلهام لكل من ينشد الإصلاح في الأمة.


[1] مسند الإمام أحمد، رقم 26524.
[2] ينظر الطبقات الكبرى لابن سعد-ترجمة الحسين بن علي رضي الله عنه تحت رقم 1374.
[3] أخرجه الترمذي في سننه رقم 3775.
[4] أخرجه الترمذي في سننه رقم 3772.
[5] أخرجه النسائي في السنن الكبرى (8168)، وابن ماجه (143).
[6] أخرجه البخاري في صحيحه رقم 3371.
[7] الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر، ج1/393.
[8] البداية والنهاية لابن كثير، ج11/529.
[9] أسد الغابة ابن الأثير، ج1/498.
[10] الطبقات الكبرى، ج6/408.
[11] رواه ابن حبان في صحيحه رقم 3303.
[12] الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري، ص220.
[13] الطبقات الكبرى، ج6/414.
[14] البداية والنهاية لابن كثير، ج11/579.
[15] العدل، الإسلاميون والحكم لعبد السلام ياسين، ص95.
[16] تاريخ دمشق لابن عساكر، ج14/181.
[17] المصدر نفسه، ج14/217-218.
[18] المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا لعبد السلام ياسين، ص298.
[19] الطبقات الكبرى، ج6/414.
[20] تاريخ دمشق لابن عساكر، ج14/205.
[21] المصدر نفسه، ج14/204،205.
[22] الطبقات الكبرى، ج6/425.
[23] البداية والنهاية، ج11/504.
[24] الأبيات للشاعر الملقب بديك الجن.
[25] سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي، ج4/37.
[26] الملهوف على قتلى الطفوف لعلي بن طاوس، ص98.
[27] سير أعلام النبلاء، ج3/301.
[28] البداية والنهاية ج11/513.
[29] البداية والنهاية، ج11/527، 528.
[30] الكامل في التاريخ، ج3/170.