مقدمة
إذا كان بعض الفقه الجنائي يسمي القانون الجنائي بقانون المجرمين، فإن جمهور الفقه الجنائي يصطلح على قانون المسطرة الجنائية بقانون الأبرياء، نظرا لأن المشرع سيج فيه حقوق وحريات الأفراد بمجموعة من الضمانات، التي تشكل في جوهرها ضمانات وشروط المحاكمة العادلة، التي أقرتها المواثيق والعهود الدولية، غير أن أهم ما يلاحظ على مسودة قانون المسطرة الجنائية هو تغول سلطات الاتهام، وعلى رأسها جهاز النيابة العامة، واللجوء بشكل مكثف للإجراءات القسرية التي تستبعد شرط رضا الأشخاص.
ونظرا لأهمية الموضوع النظرية والعملية، وعلاقته بحقوق وحريات الأفراد، فقد ارتأيت إبداء بعد الملاحظات الأولية على هذه المسودة، أجملها فيما يلي:
آمال عراض
نصت مقتضيات المادة الأولى من المشروع على مبادئ عامة من قبيل المساواة أمام القانون، والمحاكمة في أجل معقول، وضمانات المحاكمة العادلة، وخضوع الأشخاص الموجودين في وضعيات مماثلة والمتابعين من أجل نفس الأفعال لنفس القواعد القانونية، وعدم إمكانية تقييد حرية الأفراد إلا بمقتضى القانون وتحت مراقبة السلطات القضائية المختصة.
وأن مؤدى هذه المادة أن حرية الفرد لا يمكن المساس بها كمبدأ عام إلا بناء على حكم قضائي متمتع بقوة الشيء المقضي به، صادر عن محكمة نزيهة ومستقلة، بناء على محاكمة متع فيها المتهم بكافة ضمانات وشروط المحاكمة العادلة، وعلى رأسها حضور الدفاع.
طموح لا تعكسه مقتضيات المشروع
إلا أن هذه الأماني العريضة لا تعكسها بعض مقتضيات المشروع.
1- الإخلال بالتوازن بين جهة الاتهام وجهة الدفاع
زود المشرع جهة الاتهام بوسائل تقنية وقانونية مهمة، من قبيل:
– إنجاز محاضر إلكترونية من قبل الشرطة القضائية، المادة 24.
– في الجنايات والجنح المعاقب عليها بخمس سنوات فأكثر ينجز تسجيل سمعي بصري لقراءة محضر استجواب الشخص الموضوع رهن الحراسة القضائية ولحظة توقيعه أو إبصامه عليه أو رفضه.
– إقرار منظومة الاختراق بواسطة ضباط أو أعوان للشرطة القضائية مع منح حجية للمحاضر والتقارير المنجزة بناء على هذه العملية، المواد من 82\3\1 إلى 82\3\6.
– إيقاف الأشخاص للتحقق من هويتهم، مع إمكانية اصطحابهم إلى مقر الشرطة والاحتفاظ بهم لمدة قد تصل إلى ست ساعات في بعض الحالات، المواد من 82/3/7 إلى 82/3/11.
– إضافة ثلاثة مبررات أخرى للإيداع في السجن من قبل النيابة العامة في غير حالة التلبس، وهي: خطورة الأفعال، وجسامة الضرر، وخطورة الوسيلة المستعملة في الجريمة، المادة 47\1.
– تقليص القضايا التي يجرى فيها التحقيق الإعدادي في المادة 83، حيث أصبح التحقيق اختياريا في الجنايات، وفي الجنح بنص خاص، الأمر الذي سيسمح للنيابة العامة بإحالة المتهمين مباشرة على قضاء الحكم، وغالبا ما يكونون في حالة اعتقال بالنظر للثقافة السجنية السائدة في وعي النيابة العامة، في غياب جهاز قضاء التحقيق، الذي له دور فعال في نخل الملفات، وإصدار أمر بعدم المتابعة في مجموعة كبيرة من الملفات لا تتوافر فيها أدلة كافية للاتهام، بغض النظر عن توجه محكمة النقض الأخير، الخاطئ في نظرنا، القائل بعدم أهلية قضاء التحقيق لتقدير القيمة الاتهامية للأدلة.
وفي المقابل متع المتهم ببعض الضمانات الشكلية فقط، من قبيل:
– اتصال المحامي بالمشتبه به أثناء الوضع رهن الحراسة النظرية كإجراء شكلي فقط، المادة 66-2؛
– بيان الشخص المشعر بإجراء الوضع رهن الحراسة النظرية ووسيلة الإشعار، المادة 67؛
– الطعن في الأمر بالإيداع في السجن الصادر عن النيابة العامة أمام هيئة الحكم المختصة، المادتين 73-2 و74-1؛
– التصريح ببطلان الاعتراف الذي تضمنه محضر الضابطة القضائية في حالة رفض إجراء الفحص الطبي من قبل النيابة العامة، المادتين 73-2 و74-1.
2- انفراد الضابطة القضائية بالمشتبه فيه
لئن كان المشروع استجاب لمطالب الهيآت الحقوقية، وعلى رأسها جمعية هيآت المحامين، التي ما فتئت تطالب مند عقود بتمتيع المشتبه فيه بمؤازرة محام أثناء مثوله أمام سلطات البحث والتحري، ونص في الفقرة السابعة من المادة 66/2 على إمكانية حضور المحامي مع المشتبه فيه ابتداء من الساعة الأولى لإيقافه، إلا أنه من جهة حصر مهمة الدفاع في الاتصال بالمشتبه فيه لمدة 30 دقيقة، ومن جهة أخرى خول للنيابة العامة بناء على طلب ضابط الشرطة القضائية كلما تعلق الأمر بجناية أو جريمة إرهابية أن تؤخر اتصال المحامي بالمشتبه فيه، على أن لا تتجاوز مدة التأخير نصف المدة الأصلية للحراسة النظرية، أي أن حضور المحامي شكلي، إذ لا يحق له حضور الاستماع للمشتبه فيه إلا إذا كان هذا الأخير حدثا أو مصابا بعاهة مما ذكر في المادة 316.
فلماذا إذن حضور الدفاع إذا لم يكن في إمكانه القيام بمهامه كما تنص على ذلك المواثيق والعهود الدولية؟
3- شرعنة الاعتقال التحكمي
نص المشروع في الفقرة الثانية من المادة 66 على أنه لا تحتسب ضمن مدة الحراسة النظرية المدة اللازمة لنقل المشتبه فيه الموقوف خارج الدائرة القضائية لضابط الشرطة القضائية، كما لا يحتسب ضمنها مدة العلاج، ولو كانت تحت المراقبة الأمنية، وبذلك انتصر المشروع لوجهة نظر النيابة العامة، وتنكر لعمل محاكم الموضوع، التي استقرت على احتساب مدة النقل ضمن مدة الحراسة النظرية في إطار تأويلها لعبارة ”ابتداء من ساعة توقيفهم“، الواردة في المادة 66 من قانون المسطرة الجنائية، طالما أن النص الجنائي يفسر بالمفهوم الأصلح للمتهم، واعتمادا لقاعدة التفسير الموسع المؤدي إلى التوسع في حقوق الدفاع وكفالة الحرية، التي أقرها جمهور الفقه الجنائي، وعلى رأسهم الأستاذ محمد العلمي المشيشي، والأستاذ محمد العياط.
4- إشكالية الإلزام
لئن كانت التعديلات التي أدخلها المشروع على الفقرة الرابعة من المادة 67 إيجابية، وخطا بها واضع المشروع خطوة كبيرة نحو القطع مع زمن الاختطافات والاعتقالات السرية، حيث كانت العائلات لا تعلم مصير أبنائها، وذلك باستجابته لمطالب الدفاع الذي لم يأل جهدا في إثارة الدفع المتعلق بعدم إشعار عائلة المحتفظ به رهن الحراسة النظرية بهذا الإجراء، بدليل غياب الإشارة في المحضر للشخص المشعر ووسيلة الإشعار، رغم إيماء المشرع لذلك في المادة 67 من ق م ج من خلال عبارة ”ويشير إلى ذلك في المحضر“، وذلك بنصه صراحة، وليس إيماء، على الإشارة في المحضر إلى الشخص الذي تم إشعاره، ووسيلة الإشعار، إلا أنه لم يستعمل في النص عبارة تفيد إلزام ضابط الشرطة القضائية بذلك، بدليل أنه استعمل لفظة ”يقوم“ ولم يستعمل لفظة ”يجب أو يتعين“، الأمر الذي يفتح باب التأويل على مصراعيه، خاصة وأن محكمة النقض استقر اجتهادها على أن عدم احترام هذا الإجراء لا يعيب عمل الضابطة القضائية طالما أن المشرع لم يرتب على ذلك جزاء، ولا تعمل الجزاء العام الوارد في المادة 751 من قانون المسطرة الجنائية الذي ينص على أن كل إجراء يأمر به هذا القانون، ولم يثبت إنجازه على الوجه القانوني يعتبر كأن لم ينجز، الأمر الذي يفرغ كل الضمانات من مضمونها، وكان على واضع المشروع تبني نظرية واضحة للبطلان، كما هو الشأن بالنسبة لجملة من التشريعات المقارنة كالمشرع المصري.
5- تجزئة البطلان والتنكر للحرية
نصت المادة 67\2 من المشروع على أنه يعد باطلا كل إجراء يتعلق بشخص موضوع رهن الحراسة النظرية، إذا تم بعد انقضاء مدة الحراسة، أو بعد انتهاء مدة التمديد، غير أن المشروع قصر البطلان على الإجراءات التي تم القيام بها عقب انتهاء مدة الحراسة النظرية الأصلية، أو خلال مدة التمديد المأذون بها قانونا.
والحال أنه يصعب عمليا التمييز بين الإجراءات التي تمت خلال المدتين، طالما أن ضابط الشرطة القضائية لا يشير إلى ساعة انطلاق الإجراء وساعة انتهائه.
ويثار السؤال حول ما يمكن فعله إذا ابتدأ الإجراء خلال المدة القانونية واستمر بعد انتهائها.
وبرأينا فإن هذا المقتضى مناف لأصول الإجراءات الجنائية التي أقرتها التشريعات المقارنة، ومجاف لمبادئ العدالة والإنصاف، على اعتبار أن جمهور الفقه الجنائي مستقر على بطلان كل الإجراءات التي تمت إما انتهاكا لحقوق الدفاع، أو مست بالحرية، ولذلك قالت محكمة النقض المصرية – أيام كان القضاء المصري مثالا يحتذى به – في قضية مقتل السادات أنه ”لا يمكن الوصول للحقيقة على مذبح الحرية“.
وقالت أيضا في إحدى قراراتها المشهورة إن ”الأدلة في المادة الجنائية متعاضدة متساندة، متى بطل منها جزء انهارت القناعة برمتها، لأنه لا يعلم مقدار مساهمة كل دليل في تكوين قناعة المحكمة“.
6- التحقق من الهوية مساس بالحرية
اقترح المشروع إضافة باب رابع إلى قانون المسطرة الجنائية، وخول للضابطة القضائية في المادتين 82/3/8 و82/3/9 إمكانية إيقاف الأشخاص للتحقق من هويتهم في حالة الاشتباه فيهم بارتكاب أو محاولة ارتكاب جريمة، أو استعدادهم لارتكاب جناية أو جنحة، أو أن لديهم معلومات مفيدة للبحث في جناية أو جنحة، أو أنهم موضوع أبحاث مأمور بها من قبل سلطة قضائية، أو أنهم يشكلون تهديدا للأشخاص أو الممتلكات أو الأمن العام، أو لمنع وقوع جريمة.
بل ويمكن لضابط الشرطة القضائية عملا بمقتضيات المادة 82/3/10 اصطحاب الأشخاص إلى مقر الشرطة للتحقق من هويتهم في حالة رفضهم الإدلاء بذلك، أو تعذر التعرف على هويتهم.
ويمكن أن يمتد توقيف الشخص للتحقق من هويته لمدة ست ساعات، قابلة للتمديد لست ساعات أخرى بإذن من وكيل الملك المختص.
والحقيقة أن هذه المادة منحت ضابط الشرطة القضائية سلطة واسعة في تقدير مبررات التحقق من الهوية، واصطحاب الأشخاص إلى مقار الشرطة والاحتفاظ بهم لمدة قد تصل إلى 12 ساعة.
والحال أنه يمكن تجهيز دوريات الشرطة بأجهزة التنقيط للتثبت من هوية الأفراد، خاصة وأن العالم يشهد ثورة في وسائل الاتصال، في حين أن أجهزة الشرطة لا زالت تشتغل بمنظومة تقنية بدائية.
ومن ثم فإن إجراء التحقق من الهوية فيه مساس واضح بحرية الأفراد ضدا على المادة الأولى من المشروع، التي أقرت قرينة البراءة.
7- حرمان المتهم من درجة من درجات التقاضي
أضاف مشروع قانون المسطرة الجنائية فقرة أولى إلى المادة 393 نصت على ما يلي: “لا يجوز التعرض إلا على الأحكام غير القابلة للاستئناف”.
ومؤدى هذا المقتضى القانوني أنه لا يجوز للمتهم والطرف المدني التعرض على الحكم الابتدائي طالما أنه يقبل الطعن بالاستئناف.
وبذلك نقل المشرع القاعدة المدنية القائلة بعدم جواز الطعن بالتعرض في الحكم الابتدائي القابل بالاستئناف المنصوص عليها في الفصل 130 من قانون المسطرة المدنية.
وأنه لما كان الفارق شاسعا بين الدعوى المدنية التي تروم إما الحكم بمبلغ معين أو القيام بعمل معين أو الامتناع عن عمل معين، والدعوى العمومية التي يكون فيه الجزاء هو النيل من شرف المتهم أو حريته أو ماليته وأحيانا حياته، فإن النص على عدم جواز الطعن في الحكم القابل بالاستئناف في المادة الزجرية ينطوي على تفويت درجة من درجات التقاضي على المتهم والمطالب بالحق المدني والتي تعد بإجماع الفقه من النظام العام، ومساسا صارخا بحقوق الدفاع خاصة بالنسبة للمتهم الذي يعقد في كثير من الأحيان آمال كبيرة على دور محكمة الاستئناف في تصحيح ما قد يعتري الحكم الابتدائي من خطأ، ومن ثم فإن اعتماد هذه القاعدة غير مستساغ بالمرة، وينبغي التراجع عنها كفالة لحق الدفاع.
8- عدم ملاءمة بعض المواد مع فلسفة النص
نصت المادة 51/1 من المشروع على أن الوكيل العام للملك بمحكمة النقض هو رئيس النيابة العامة، كما نصت المادة 52/2 على أن السلطة الحكومية المكلفة بالعدل تضع المضامين العامة للسياسة الجنائية، وتبلغها كتابة إلى رئيس النيابة العامة الذي يبلغها بدوره إلى الوكلاء العامين ووكلاء الملك، الذين يسهرون على تطبيقها وفقا للقانون.
وأن هذا المنحى يتناقض كليا مع مبدأ يشكل أصلا من أصول المسطرة الجنائية في المغرب، وكذا القوانين الجنائية اللاتينية التي تشكل المرجع التاريخي له، وهو أن النظام الاتهامي في المغرب قائم على مبدأ تقديرية المتابعة، وليس نظام قانونية المتابعة السائد في الأنظمة الجنائية الأنكلوساكسونية، ومن ثم فإن النيابة العامة تتمتع بسلطة الملاءمة في تحريك الدعوى العمومية وممارستها زجرا للجرائم المرتكبة تبعا لسياسة جنائية تضعها سلطة سياسية، تساءل عنها أمام الأجهزة الرقابية وعلى رأسها البرلمان، فقد تقتضي السياسة الجنائية عدم ملاحقة بعض الجرائم رعيا لاعتبارات معينة، في حين أنه في الأنظمة التي تتبع نظام قانونية المتابعة، يتم تحريك الدعوى العمومية من قبل النيابة العامة بكيفية آلية بمجرد وقوع الجريمة، ومن الأمثلة الشاهدة على ذلك متابعة المدير العام للصندوق الدولي السيد ستروسكان في الولايات المتحدة الأمريكية.
9- المساس باستقلال القضاء
نصت المادة 49 من المشروع على أن الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف يمكنه كلما تعلق الأمر بجناية، وكان الضرر المترتب عنها محدودا أن يحيل على وكيل الملك المختص القضية لإجراء المتابعة بوصفها جنحة إذا كان القانون يسمح بذلك، وإذا تمت الإحالة فإنه يتعين على المحكمة البت في القضية وفقا للوصف المحال عليها.
وهذا يشكل من جهة خرقا لمبدأ الفصل بين الوظائف القضائية، أي وظيفتي الاتهام والحكم، ومن جهة أخرى مسا باستقلال القضاء الذي يعتبر صمام الأمان بالنسبة لحقوق وحريات الأفراد، ومن جهة ثالثة خرقا للمادة الأولى من المشروع، التي تنص على ضمان حقوق الضحايا والمتهمين على حد السواء.
والله من وراء القصد وهو يهدي إلى سواء السبيل.