تتسابق الأمم كما يتنافس الأفراد لنيل الدرجات الأولى في سلم الأفضلية، وتختلف موازينهم ومقاصدهم في ذلك، ولقد حدد الوحي مقومات الخيرية عند الأمم والأفراد، فأخبرنا القرآن الكريم أن خير أمة أخرجت للناس هي الأمة الإسلامية؛ ومما يؤهلها لهذه الخيرية إيمان بالله مقرون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ يقول سبحانه وتعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (الآية) [آل عمران: 110]، فمتى وُجدت هاته المقومات وحُفظت استمرت في خيريتها، ومتى فُقدت أو انحسرت في أفراد لم تكن الأمة أهلا لهذه الخيرية؛ فهي خيرية منوطة بجلب المصالح للمجتمع الإنساني ودرء المفاسد عنه وفق حكم الله، وليس كما تسعى إليه المجتمعات الجاهلية من هيمنة وسيطرة على من دونها قوة من خلال تفوقها المادي.
كما رغب رسول الله صلى الله وعليه وسلم المسلمين في تحقيق الخيرية من خلال اكتساب خصال الخير استجابة للأمر الإلهي “فاستبقوا الخيرات”، فقد دلهم على أبواب الخير وخصاله وبين أعلى مراتبها، إما ابتداء أو عند سؤال الصحابة أو توجيها عند واقعة ما، وبذلك يستطيع المسلم أن يُمثِّل خير أمة أخرجت للناس، كما أنه لا سبيل للفلاح، سوى الإخلاص في عبادة الخالق، والسّعي في نفع عبيده. ومما جاء في ذكر خصلة من خصال الخير قوله صلى الله عليه وسلم: “خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي” 1، وسنحاول في هذه المقالة الوقوق على بعض تجليات هذه الخيرية من خلال مواقف من سيرته صلى الله عليه وسلم مع أهله.
في هذا الحديث جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الإحسان إلى الأهل من أفضل الأعمال، وفاعله من خير الناس أي أفضلهم وأعلاهم عند الله درجة، لأن “خير” جاءت هنا اسم تفضيل، وأصله “أخير”، وحذفت همزته على خلاف القياس؛ لكثرة استعماله. وقد اختُلف في المقصود بالأهل على أقوال، فقد جاء في تحفة الأحوذي: “قوله: خيركم خيركم لأهله: أي لعياله، وذوي رحمه، وقيل لأزواجه وأقاربه” 2، وبالرجوع إلى سبب ورود الحديث كما ذكره ابن حبان، فالمقصود بالأهل الأزواج؛ فقد جاء في صحيحه: “أن الرجال استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضرب النساء، فأذن لهم، فضربوهن، فبات فسمع صوتا عاليا، فقال: ما هذا؟ قالوا: أذنت للرجال في ضرب النساء فضربوهن فنهاهم وقال: “خيركم خيركم لأهله وأنا من خيركم لأهلي” 3، ويشهد لهذا المعنى حديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم” 4.
وإذا رجعنا إلى مفهوم الأهل في القرآن نجد أنه تارة يدل على: الزوجة؛ لقوله تعالى: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ [القصص: 29]. وتارة على الأولاد؛ لقوله تعالى: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هود: 45]. وتارة أخرى على الإخوة؛ لقوله عز وجل: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي [طه: 29، 30].
وأما في معاجم اللغة فنجد أن “أهل الرجل امرأته وولده والذين في عياله ونفقته، وكذا كل أخ وأخت أو عم أو ابن عم أو صبي أجنبي يقوته في منزله” 5، ومنه يمكن القول إن المقصود بأهل الرجل زوجه خاصة، ووصيته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع “استوصوا بالنساء خيرا” تؤكد خصوصية النساء، وتعُم كل من هم في عياله ونفقته، فكلهم يشملهم حسن عشرته لهم.
وتحقيق الخيرية يكون بحسن الخلق مع الأهل فهم “الأحقاء بالبِشْر وحسن الخلق والإحسان وجلب النفع ودفع الضر، فإذا كان الرجل كذلك فهو خير الناس، وإن كان على العكس من ذلك فهو في الجانب الآخر من الشر” 6. وحسن الخلق هو من تجليات إحسان المؤمن عبادته لربه الذي به “يطيب قلبه وتجمل أخلاقه وتصلح نواياه وأفعاله فيكون للخلق رحمة يعم نفعه العالم الأقرب فالأقرب” 7، فهناك ترابط وتكامل بين حق الله وحق عباده.
اختلف العلماء في تعريف حسن الخلق وتعددت أقوالهم فيه، فنجد أن ابن المبارك يعرفه بـ”بسط الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى” 8، وقال الإمام أحمد: “حسن الخلق ألا تغضب، ولا تحقد، وعنه: أنه قال: حسن الخلق أن تحتمل ما يكون من الناس” 9. لكن يتضح أن هذه التعاريف وغيرها أشارت إلى بعض مظاهره، بينما حسن الخلق هو أعم وأوسع، فهو التخلق بالقرآن كما كان خلق رسول الله عليه، فقد مدحه ربه بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4]، ولما سأل هشامُ بن عامر عائشةَ -رضي الله عنها- عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: “ألست تقرأ القرآن؟ فإن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن” 10.
ولما كان صلى الله عليه وسلم القدوة والمثل الأعلى في تعامله مع أهله، فهو خير الناس مطلقا، وجب على المسلم النظر في سيرته والتخلق بخلقه الذي وُسم بالرحمة واللين، وخيار الأزواج مَن اهتدى بهديه، وسيرته صلى الله عليه وسلم زاخرة بما يشهد لهذه الخيرية في أقواله وأفعاله في بيته ومع زوجاته؛ ويصعب إبراز جميع مواقفه وتعامله مع زوجاته، ولكن نكتفي بذكر بعضها، ونؤكد أن مما زانها -أي مواقفه- رفق شهدت به أمنا عائشة التي تروي لنا أحاديث الرفق، فقد عاشته في أبهى تجلياته مع الزوج الرؤوف الرحيم سلوكا منه صلى الله عليه وسلم وتوجيها منه إلى التحلي به في كل شؤوننا، فقد “استأذن رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليكم. فقالت عائشة: بل عليكم السام واللعنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “يا عائشة! إن الله يحب الرفق في الأمر كله” قالت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال “قد قلت: وعليكم” 11.
عبّر صلى الله عليه وسلم عن مشاعره وعن حبه لعائشة حينما سأله عمرو بن العاص عن أحب الناس إليه، فقال: “عائشة”، وطيب نفسها وأبان عن حسن عشرته لها حينما أخبرها بقوله: “كنت لك كأبي زرع لأم زرع” أي في إحسانه، وذلك أثناء سمرهما. هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم “جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقة، ويضاحك نساءه. حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، يتودد إليها بذلك. قالت: سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته. وذلك قبل أن أحمل اللحم (أي سمنت). ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني” 12.
كما أنه كان صلى الله عليه وسلم مشاركا معينا لأهله؛ فقد “سُئلت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي ﷺ يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله -تعني خدمة أهله- فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة” 13؛ هذا رغم المسؤولية العظيمة التي كان يحملها، فقد كان يعطي لكل ذي حق حقه في توازن واعتدال، وقد صدَّق قول سلمان الفارسي وقرره حين أوصى أبا الدرداء بقوله «إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه» 14.
قد ينجح الأزواج في بذل المعروف وطلاقة الوجه ولين الكلام وكف الأذى ولكنه قد يفشل في اختبار تحمل الأذى والصفح عن الزلل، فذاك يضعه على المِحك، فمن يستطيع أن يملك نفسه ويكفها عن الغضب وربة البيت تكسر عليه الأواني أمام أضيافه، فلنتأمل بعين التأسي حادثة ترويها كتب السيرة عن نموذج من رفقه صلى الله عليه وسلم وهو يراعي طبيعة النساء وما جبلن عليه من الغيرة، فقد روى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه، فأرسلت إليه إحدى أمهات المؤمنين بصَحْفَةٍ (إناء كالقصعة). فيها طعام. فضربت التي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادِم، فسقطت الصحفة فانفلقت. فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فِلَقَ الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: غارَتْ أمُّكم! ثم حبس الخادمَ حتى أُتِيَ بصحفة من عند التي هو في بيتها. فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسِرَتْ صحفتها، وأمسَك المكسورة في بيت التي كُسِرت فيه» 15.
وختاما، فإن أداء حقوق الأزواج والإحسان إليهن/إليهم مدعاة للمحبة والطمأنينة ومعين على الطاعة، وتمامه -أداء الحقوق- نابع من تقوى الله وخشيته، والرفق في كل شيء إلا أن تنتهك حرمات الله؛ فعن عائشة أنها قالت: «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قطُّ بيده، ولا امرأةً، ولا خادِما. إلا أن يجاهد في سبيل الله. وما نِيلَ منه شيء قط فينْتَقِمَ من صاحبه، إلا أن يُنتَهَكَ شيء من محارم الله فيَنتَقِم لله عز وجلَ» 16.
[2] تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري، الناشر: دار الكتب العلمية –بيروت، 10/269.
[3] صحيح ابن حبان: المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع من غير وجود قطع في سندها ولا ثبوت جرح في ناقليها، ابن حبان، المحقق: محمد علي سونمز، خالص آي دمير، الناشر: دار ابن حزم – بيروت، ط.1 (1433ه-2012م)، النوع الثالث والعشرون، ذكر الزجر عن ضرب النساء إذ خير الناس خيرهم لأهله، رقم الحديث: 2209.
[4] أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الرضاع، باب ما جاء في حق المرأة على زوجها، رقم الحديث: 1162.
[5] المُغْرِب في ترتيب المعرِب، المطرزي، حققه: محمود فاخوري وعبد الحميد مختار، الناشر: مكتبة أسامة بن زيد، حلب – سوريا، ط. 1 (1399ه -1989م)، 1،50.
[6] نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار، الشوكاني، حققه، وخرج أحاديثه وآثاره وعلق عليه: محمد صبحي بن حسن حلاق، الناشر: دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، السعودية، ط. 1 (1427ه، 12/331.
[7] الإحسان، عبد السلام ياسين، دار لبنان للطباعة والنشر، ط.2 (1439ه-2018م) /1/14.
[8] جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم، ابن رجب، المحقق: شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس، الناشر: مؤسسة الرسالة – بيروت، ط. 7(1417ه_ 1997م)،1/ 457.
[9] نفسه، 1/457.
[10] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل، ومن نام عنه أو مرض، رقم الحديث: 746.
[11] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، وكيف يرد عليهم، رقم الحديث: 2165.
[12] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، المحقق: سامي بن محمد السلامة الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض –السعودية، ط.2(1420ه-1999م)، 2/242.
[13] أخرجه البخاري في صحيحه، باب من كان في حاجة أهله فأقيمت الصلاة فخرج، رقم الحديث: 644.
[14] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع، رقم الحديث 1968.
[15] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب الغيرة، رقم الحديث: 5225.
[16] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، واختياره من المباح أسهله، وانتقامه لله عند انتهاك حرماته، رقم الحديث: 2328.