قراءة في كتاب “محمد رسول الله ﷺ رسول السلام” للدكتور أحمد بوعود

Cover Image for قراءة في كتاب “محمد رسول الله ﷺ رسول السلام” للدكتور أحمد بوعود
نشر بتاريخ

تقديم

يعرض كتاب “محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول السلام” للدكتور أحمد بوعود في مقدمته موقفين متعارضين حول الدين الإسلامي:

الموقف الأول يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم رجل حرب وقتال، وهو الرأي الذي ساد في أوربا منذ القرن الثاني عشر بفعل الرهبان، وتجدد في عصرنا منذ أحداث 11 شتنبر 2001. والموقف الثاني وهو لا يقل تشددا، تبناه بعض المسلمين، يرون أن الإسلام دين لا يمكن أن ينتشر إلا بالحرب.

من هنا برز الإشكال الرئيس الذي يجيب عنه الكتاب: هل كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم رجل قتال؟ وهل الجهاد مرادف للقتال؟ وهل الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم الرحمة والسلام أم الحرب والقتال؟

يبدو أن للإشكال المطروح راهنيته، خاصة بعد تنامي ظاهرة العنف والتقتيل بين الدول والشعوب في العالم، وما يحدث بغزة اليوم لخير دليل، حيث انبرى لتجريم المقاومة ثلة من المستشرقين لتبرير العدوان الصهيوني على الأبرياء العزل، لكن رغم كل ذلك، نجد منهم منصفين دافعوا عن الإسلام، وعن النبي صلى الله عليه وسلم، مؤمنين برحمته وعدالته، ومن أبرزهم المستشرقة البريطانية كارين آرمسترونغ المتخصصة في مقارنة الأديان، التي ألفت العديد من الكتب، بينت فيها أن الإسلام دين التعايش والسلام، لا العنف والتقتيل، من أبرز هذه الكتب “محمد صلى الله عليه وسلم نبي لزماننا” 1.

 لكن الدكتور بوعود لاحظ بأن دراستها هاته تحتاج إلى تقويم، فالباحث الغربي في نظره مهما كان منصفا لابد أن يقع في الخطأ، وهو ما دفعه إلى القيام بدراسة تقويمية لبعض القضايا التي أثارتها آرمسترونغ في مكتوباتها، نشرت في كتاب بعنوان “محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول السلام” 2، وسنقتصر في قراءتنا هاته على بعض هذه القضايا.

1- طرد يهود بني قينقاع من المدينة

 كان اليهود أشد الناس عداء للإسلام وللمسلمين، وما يزالون، وكتب السير والتاريخ حافلة بقصص مكائدهم، بل والقرآن الكريم فضح دسائسهم وما تخفيه صدورهم، وقد كان يهود قينقاع أول من بادر العداء للمسلمين بالمدينة، خاصة بعد أن عاينوا “انْتِشَارَ الإِسْلَامِ في المَدِينَةِ حَتَّى لَمْ تبقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الأَنْصَارِ إِلَّا أَسْلَمَ أَهْلُهَا” 3، فعاشوا في عزلة عن المسلمين، ورفضوا الاندماج معهم، بل وحاولوا بشتى السبل إحداث الشقاق بينهم، بالاتفاق مع المنافقين من جهة، وتشجيع المشركين على محاربة المسلمين من جهة ثانية. فكان من أهم نتائج هذه المكائد طرد اليهود من المدينة المنورة.

تعلق كارين آرمسترونغ على نتائج هذه الأحداث بقولها: “أظهر محمد صلى الله عليه وسلم أنه ما زال شخصا يُحسب حسابه، ولكن لابد أنه فكر في عقم مثل هذا النجاح من الناحية الأخلاقية والسياسية أيضا” 4.

هذا التعليق لم يرق الدكتور بوعود حيث اعتبر أن هذه النقطة هي “أهم ثغرة لدى كارين، إذ كيف تقتنع بأن ما فعله اليهود كان جرما بشعا، ثم تقر بعد ذلك أنه كان منتظرا ذبح الرجال وسبي النساء والأطفال، كما في العقاب التقليدي، ثم تعود لتقرر أن محمدا صلى الله عليه وسلم وقع في مأزق أخلاقي عندما طرد اليهود؟” 5، نعم هناك تناقض في حكمها هذا، والأدلة على ذلك عديدة، نذكر منها:

أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقدم على طردهم إلا بعد أن استنفد جميع السبل من أجل تحقيق السلام معهم في مجتمع المدينة، وهو ما أثبتته كتب السيرة، حيث “قام رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجمعهم بِسُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، ثُمَّ قَالَ: “يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، احْذَرُوا مِن اللَّهِ مِثْلَ مَا نَزَلَ بِقُرَيْشٍ مِنْ النِّقْمَةِ، وَأَسْلِمُوا، فَإِنَّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمْ أَنِّي نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، تَجِدُونَ ذَلِكَ فِي كِتَابِكُمْ وَعَهْدِ اللَّهِ إلَيْكُمْ، قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، إنَّكَ تَرَى أَنَّا قَوْمُكَ! لَا يَغُرَّنَّكَ أَنَّكَ لَقِيت قَوْمًا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِالْحَرْبِ، فَأَصَبْتَ مِنْهُمْ فُرْصَةً، إنَّا وَاَللَّهِ لَئِنْ حَارَبْنَاكَ لَتَعْلَمَنَّ أَنَّا نَحْنُ النَّاسَ” 6.

ولم يكتفوا بذلك حيث “حدث أنّ امرأة عربية قدمت بجلب (بضاعة) لها، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ هناك، فاجتمع حولها نفر من اليهود، يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها وهي غافلة، فعقده إلى ظهرها. فلما قامت انكشفت سوءتها، وضحك اليهود منها، وصاحت المرأة، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، فشدّت اليهود على المسلم فقتلوه، وهكذا طارت الشرارة، ووقعت الحرب بين المسلمين وبني قينقاع. وكان ذلك في منتصف شوال في السنة الثانية من الهجرة” 7. والقصة ذكرت في العديد من كتب السيرة.

وهذا لعمري لهو خير دليل على تؤدته وتريثه صلى الله عليه وسلم قبل الإقدام على رد الظلم عنه وعن أصحابه.

2- زواج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب

قصة زواج النبي ﷺ من زينب بنت جحش هي من القصص التي أثارت الكثير من النقاش والافتراءات عبر التاريخ، رغم أنها قصة قرآنية مذكورة بوضوح في سورة الأحزاب، وقد وثّقتها كتب السيرة والتفسير بدقة. فزينب بنت جحش هي أم المؤمنين زينب بنت جحش الأسدية، كانت من أوائل المؤمنات، وتُوصف بأنها كثيرة العبادة والصيام. زوجها النبي ﷺ من زيد بن حارثة، وكان يُعرف بـزيد بن محمد قبل تحريم التبني، حيث إن زيدا كان عبدا فأعتقه النبي صلى الله عليه وسلم، وتبناه، فأصبح ينسب إليه.

وقد وقع خلاف بين زيد وزينب رضي الله تعالى عنهما، فوقع الطلاق، بعد طلاقها، أمر الله تعالى النبي ﷺ أن يتزوجها. وكان في هذا حكم شرعي عظيم، وهو إبطال التبني. لأن العرب كانت تعتبر زوجة “الابن بالتبني” مثل زوجة الابن من النسب، فيُحرَّم نكاحها بعد طلاقها 8. فأنزل الله قوله: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (الأحزاب: 37).

تعلق آرمسترونغ على هذه القصة بقولها: “ويبدو أن محمدا صلى الله عليه وسلم رآها بعين جديدة وأحبها فجأة عندما ذهب بعد الظهيرة إلى منزل زيد ليتكلم معه، ولكن لم يكن زيد بمنزله” 9، صحيح أنه صلى الله عليه وسلم تزوج زينب بعد طلاقها من زيد، لكن لم يكن لا الطلاق منها ولا الزواج بها بسبب نظرة الإعجاب الواردة في العديد من كتب التراث، والتي أخذها بعض المستشرقين على أنها الحقيقة، ومنهم آرمسترونغ، وهذا ما دفع الدكتور بوعود للتدخل من أجل تصحيح هذا الغلط، لأنه وبكل بساطة يرى بأنه كان عليها أن تعود للروايات الصحيحة المعقولة، فهذه القصة بالذات حفلت بها مجموعة من كتب التراث، لكنها تحتاج لتنقيح، وهو ما نبه إليه الطاهر بن عاشور في تحريره، حيث أكد على أنه “قد رويت في هذه القصة أخبار مخلوطة، فإياك أن تتسرب إلى نفسك منها أغلوطة” 10.

إن زواج النبي ﷺ من زينب بنت جحش كان بوحي من الله تعالى وله بعد تشريعي، والشبهة مبنية على روايات موضوعة أو ضعيفة، ردّها كبار المفسرين.

3- الجهاد

يعد الجهاد أحد المفاهيم التي أثير حولها الكثير من اللَّبس والغلط، لذلك نجد له حضورا قويا في الفكر الإسلامي، فلفظة جهاد عادة ما تُربط بالحرب والقتال، لكن المتأمل في آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم سيجد بأن للجهاد دلالة أرحب مما يعتقده البعض، وله مقاصد وأحكام وضوابط.

فإن كان الجهاد في اللغة هو بذل الجهد والوسع واستفراغ الطاقة، فهو في الشريعة الإسلامية لا يخرج عن هذه المعاني؛ إذ كل بذل واجتهاد فيما أحل الله فهو جهاد، لقوله تعالى: وَمَن جَاهَدَ فَإِنما يُجاهِدُ لِنَفسِهِ إِن اللهَ لَغَنِي عَنِ العَالمَينَ (العنكبوت: 6). وقوله تعالى في آية أخرى من نفس السورة: وَالذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنهُم سُبُلَنَا وَإِن اللهَ لمَعَ المحسِنينَ (العنكبوت: 69). فالمراد بالجهاد عموم جهاد النفس على طاعة الله لا القتال. وقد ذكر القرطبي بأن “هذه الآية نزلت قبل فرض القتال” 11. كما أن الأحاديث الواردة في ذلك كثيرة كذلك.

والجميل أن كارين آرمسترونغ تبنت المعنى العام للجهاد، وعبرت عن ذلك بقولها: “المعنى الرئيس لكلمة جهاد التي كثيرا ما نسمعها اليوم ليس الحرب المقدسة، ولكنه بذل الجهد، أو الكفاح الضروري لممارسة ما أراده الله من المرء، وعلى المسلمين أن يبذلوا وسعهم في كل المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والروحية والأسرية، وفقا لما أراده الله منهم، وفي بعض الأحيان يضطرون للقتال، ولكن ليس واجبهم الرئيس” 12.

وقد أشاد الدكتور بوعود بتصورها هذا عن الجهاد، معلقا على ذلك بقوله: “وأتفق مع الباحثة فيما ذهبت إليه من توسيع لمعنى الجهاد، فالجهاد بالسيف ليس إلا واحدا من أنواع الجهاد، له ظروفه ودواعيه، منها ما أشارت إليه الباحثة، وكل ما يحقق وحدة الأمة وعزتها ومهابتها، بين الأمم في مختلف المجالات فهو جهاد، مثل جهاد التعليم وجهاد المال وجهاد الكلمة والإعلان وجهاد التنمية والبناء” 13.

ولمزيد من التوضيح نجد بأن دلالة كلمة الجهاد وردت في القرآن الكريم بثلاثة معان:

– المعنى الأول: الجهاد بالسلاح لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ (النساء: 95).

– المعنى الثاني: الجهاد بالقول لقوله تعالى: فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (الفرقان: 52).

– المعنى الثالث: “الجهاد في الأعمال ومنه قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (العنكبوت: 69).

كما نجد مادة الجهاد في السنة النبوية تدل على معان متعددة أيضا، لكنها لا تخرج عن دائرة المعاني الكبرى التي جاءت في القرآن الكريم، مثل الجهاد بالمال والنفس، والجهاد بكلمة حق تقال لإمام جائر، والجهاد باللسان.

وخلاصة قراءتنا في هذه الدراسة التقويمية التي قام بها الدكتور بوعود نوجزها فيما يلي:

إن الدكتور بوعود قد أجاب عن إشكال الكتاب، حيث بين أن الهدف الرئيس منه هو استخلاص تصور واضح لفقه السلام والتعايش السلمي في عصر عرف بتعددية دينية ومذهبية تصل بالإنسان إلى اضطهاد أخيه الإنسان وتصفيته، وذلك ببيان جهود النبي صلى الله عليه وسلم في تربية الإنسان المسلم المتعايش مع الآخرين.

كما تجب الإشارة إلى أنه مهما كثرت الدسائس محاولة تشويه سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك لا يمنع من بروز أصوات منصفة تجهر بالحقيقة كما هي وكارين آرمسترونغ واحدة منهم، لكن رغم موضوعيتها وحيادها، تبقى دراستها معرضة أحيانا للخطأ وذلك راجع بالأساس إلى عدم قدرتها التعامل مع التراث الإسلامي المكتوب باللغة العربية.


[1] آرمسترونغ، كارين، محمد صلى الله عليه وسلم نبي لزماننا، ترجمة فاتن الزلباني، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط1، 1429هـ ـ 2008م.
[2] بوعود، أحمد، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول السلام، منشورات الزمن، الرباط ط1، 2015.
[3] موسى بن راشد العازمي، اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون، المكتبة العامرية، الكويت، ط1، 1432هـ ـ 2011م، 2/240.
[4] آرمسترونغ، كارين، محمد صلى الله عليه وسلم نبي لزماننا، ص137.
[5] بوعود، أحمد، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول السلام، ص112.
[6] ابن هشام، عبد الملك، السيرة النبوية، تحقيق محمد عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1410هـ ـ 1990م، 3/9.
[7] الغزالي، محمد، فقه السيرة، دار القلم، دمشق، ط1، 1427هـ، ص247. كتاب سيرة ابن هشام، 2/47، زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم، 3/170.
[8] ابن عاشور، محمد الطاهر، التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، 1984م، 22/31 و22/28.
[9] آرمسترونغ، كارين، محمد صلى الله عليه وسلم نبي لزماننا، ص153.
[10] ابن عاشور، محمد الطاهر، التحرير والتنوير، 22/35.
[11] القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد، الجامع لأحكام القرآن، 13/364.
[12] آرمسترونغ، كارين، محمد صلى الله عليه وسلم نبي لزماننا.
[13] بوعود، أحمد، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول السلام، ص102.