في الوقت الذي نجد الساحة الفكرية تفتقر إلى المضمون أو المنهج بخصوص موضوع العقل المسلم ووظيفته، برز عام 1994 كتاب (محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى) للإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله، يبين وظيفة العقل المسلم عندما يكون خاضعا للوحي فيفوز بالدنيا والآخرة ويرضى عنه خالقه، وكيف ينحط عندما يتبع الهوى ويزيغ فيخسر آخرته ويخزيه خالقه.
والكتاب ليس بالذي تتجاوزه الأحداث أو تفقد معلوماته وأفكاره قيمتها بتقدم الزمن، بل هو من الأساسيات التي تصحب الأجيال ويُحتاج إليها في كل مرحلة. ولن أبالغ إن قلت إنه منهاج تفكير. من هنا ظهرت الحاجة إلى إعادة النظر فيه وقد مرت عشرون سنة على صدوره.
لقد اخترت أن أعرض هذا الكتاب من خلال العبارات الثلاث المركبة لعنوانه: العقل المسلم، وسيادة الوحي، وسيطرة الهوى.
1- العقل المسلم
عُرّف العقل بأنه ما يقابل الغريزة التي لا اختيار لها (الإنسان حيوان عاقل)… أو هو ما يكون به التفكير والاستدلال وتركيب التصورات والتصديقات وما به يتميز الحسن من القبيح، والخير من الشر، والحق من الباطل…
أما الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله فيحيلنا إلى كتاب الله عز وجل حيث نجده ذكر مادة “عقل” خمسين مرة، وليس منها لفظة تدل على الآلة المشتركة، أي العقل الذي يتوفر عليه كل البشر والذي يقابل الغريزة. يقول معرفا: (العقل في القرآن هو فعل حاسة باطنة في الإنسان تسمى القلب) 1.
وقريب من ها التعريف نجد تعريف الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله في الإحياء الذي يقول عن العقل: (هو الذي يدل على صدق النبوة).
لكن هذا لا يعني أن القرآن يقصي العقل الآلة المشتركة ويلغي دوره، وإلا لما خاطب النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة الكرام “أنتم أعلم بأمور دنياكم” في قضية تأبير النخل المعروفة؛ (فالمؤمن بالله المصدق بالوحي يصاب بالعور إذا هو أغمض عين المدارك المشتركة… وعجز عن التعلم من الكون وترك للإهمال والصدأ، لأن هدا ينتج عنه فوات ركب الحياة والقعود مع القاعدين العاجزين) 2.
والعكس أيضا، وربما المصيبة أعظم إذا الإنسان أعرض عن الوحي واكتفى بالعقل المشترك الآلة.. يقول الله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَـٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (الأعراف: 179).
هذه هي طبيعة العقل المسلم، فكيف يسود بالوحي؟
2- سيادة الوحي
عُرّف الوحي بأنه الإشارة السريعة. وعندما سمع الكفار المشركون الوحي من عند محمد صلى الله عليه وسلم وقال لهم الأمر الخالد: “اعبدوا الله”، قالوا، وفي قولهم تعليق على الوحي: “كذاب، مجنون، أفاك، ساحر، ضال…”.
واليوم، ورغم التطور العلومي والحضاري نجد نفس التعليق والرد على الوحي ودعوة الله سبحانه وتعالى، وكأن لسان حالهم يقول: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّـهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (البقرة: 170)، يكررون بفكرهم وصناعتهم قول من سبقهم إِنْ هَـٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (المدثر: 24).
وأما المحلل النفسي والمستشرق فيقول: (الرجل صادق في الإخبار عن الحدث، لكنه مثل غيره ممن يعانون من الذُهان وانفصام الشخصية، خاطبته أشباح هلوساته) 3. وهذا لسان كثير من العقلانيين اليوم.
ولكن ماذا يقول الله عز وجل عن الوحي؟
يقول سبحانه وتعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّـهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (الشورى: 51)، فكلام الله عز وجل كان حدثا يوميا وأمرا معروفا وظاهرا مألوفا، رغم إنكار المنكرين وجحود الجاحدين.
يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: (تفتحت القلوب فسمعت السمع الصحيح وعقلت العقل المسلم واستجابت وأملت وعملت صالحا فازداد إيمانها، واستمعت لآيات الله تتنزل مباشرة منذرة فازداد إيمانها ورسخ يقينها، ووثقت صلتها بالوحي) 4 وأعادت للإنسان كرامته.
يقول الله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (الجمعة: 2).
نعم لم يكن الوحي فلسفة، وإنما منهاج عمل واضح. وقد بدأ عليه الصلاة والسلام بتطبيقه مصليا قائما ذاكرا مستغفرا متبتلا عابدا. فأمر كما قال عنه مولانا تبارك وتعالى ليس بالسهل، إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (المزمل: 6).
إلا أن هذا الأمر لا يتم إلا بطهارة بدنية مستمرة، حتى يستقر كل شيء في مكانه، فيشع من المؤمن نور الإيمان ويبارَك في كل أعماله وحركاته وسكناته.
وكم من مثقف اليوم يتكلم عن الإسلام والتجديد فيه، وهو لا يتوضأ، ويخطط لدولة الديمقراطية والشورى، ويمر عليه يوم بأكمله، إن لم نقل أياما، دون أن يجد الوضوء إليه طريقا. بل لا يصلي والصلاة عماد الدين. وما أكثر هؤلاء الأدعياء في واقعنا، ويسمون أنفسهم مجتهدين.
إن الوضوء عند المؤمن لا ينحصر عند الأعضاء البدنية، بل ينفذ إلى الأعماق النفسية والروحية. هنا فقط، يجد العقل المسلم نفسه مرتاحا مطمئن البال، يدور حول شمس الوحي، متعرضا لضوئها مستشفيا من أشعتها. يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: “ذَاقَ طَعْمَ الإيمانِ مَنْ رَضِيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمَّدٍ رَسُولاً”.
ويقول أيضا: “ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ، وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ؛ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ”.
وقد يزعزع هذا الاطمئنان عقيدتا الجبر والقدر، والتي شغلت الأمة حينا من الدهر فيرى المسلم أن هناك تناقضا فينحرف ذات اليمين وذات الشمال، لكن (العقل المؤمن يقبل أن تكون أفعاله له وخلقها للخالق القادر، فلا ينشغل بهذه الأمور، وإنما يحولها إلى قلبه وإيمانه… يترك كل هذه ويطرح على نفسه السؤال العملي النافع: كيف أغير ما بنفسي فأتوب ليتوب الله علي؟ أو بطرح السؤال عكسا: كيف يتوب الله عليه لأتوب جزاء تعرضي لعطائه بالإقبال عليه؟) 5.
وعندما نبحث للسؤال عن إجابة نجد المؤمنين درجات ومراتب، كل حسب همته وطاقته؛ إذ المجال مجال تنافس وتسابق: سابقوا للخيرات، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
وينبه الأستاذ عبد السلام ياسين إلى أن حال المؤمنين لا يتوقف عند التزكية الفردية المكروهة فيغتر المؤمن بحلاوة إيمانه وطمأنينة قلبه، ومن ثم ينعزل عن الآخرين، فينظر إليهم على اعتبارهم كفارا، بل ينبغي له الاندماج في جماعة المؤمنين لأخذ الزاد الكافي للتغلغل في الناس وتحقيق هدف الوحي بالنسبة للعاملين، ذلك الهدف الذي أعلن عنه ربعي بن عامر عندما دخل بساط رستم: (نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام).
وبالفعل أخرج الإسلام الانسان من جور الأديان إلى عدل الإسلام وكرمه، ذكرا وأنثى، فحقق للإنسان عزته وحرر عقله من الأوهام والخرافات، ومن ثم ساد في العالمين.
3- سيطرة الهوى
الهوى كما جاء في كتاب الله عز وجل مقابل الوحي وضد الحق، يقول الله تعالى: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (النجم: 3-4). ويقول عز وجل: يا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (ص: 26). قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما ذكر الله الهوى في كتاب إلا ذمه) واتباع الهوى مفتاح الضلال، يقول سبحانه وتعالى: أفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّـهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّـهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (الجاثية: 23) وقال: أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّـهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (محمد: 16).
إن الله عز وجل أرسل الرسل إلى الأمم والعالمين لإخراجهم عن داعية هواهم إلى عبادة الله عز وجل ممتثلين للوحي لا للهوي. انظر في هذا الشاطبي في موافقاته فقد قال كلاما لطيفا جدا: (النوع الرابع في بيان قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة). وسيطرة الهوى إنما تعني امتلاكه لأمر القلوب وحتى العقول لإجبارها وقهرها.
وهنا أتوقف لأقول: لقد كان اختيار المؤلف رحمه الله للألفاظ اختيارا دقيقا، فسيطرة كلمة جبر وضغط وقهر نسبها إلى الهوى ذلك الذي يتحكم فيه الشيطان لعنه الله. وأما السيادة فهي كلمة تدل على المجد والشرف وتدعو الآخر إلى الاحترام والوقوف تعظيما، فهي خالية من معاني القهر والجبر، بل لا غرابة إن قلنا إنها كلها رحمة. ونسبت إلى الرحمة وهي الوحي.
في اليونان، كان الفيلسوف المعلم يصطحب تلامذته فيلقنهم طريقة التفكير مشيا على الأقدام في ساحة الأغورا، وهكذا سميت بالمشائية. هنا ولد العقل اليوناني سلف العقل العصري المتقدم الذي صم آذانه عن الوحي وهديه، فهو عقل معاشي فيلسوف يدور في منطق مغلق. هذا العقل توصل إلى أن العالم طرفان:
– طرف يمثل الإمبراطورية العظمى متحكمة في مصير الناس، وهي الإمبراطورية التي ينتمي إليها.
– والطرف الآخر باقي العالم، تستغل ثرواته وخيراته وينتهك إنسانه.
وليس هذا فقط، بل داخل المجتمع الواحد لا توجد سوى فئتين:
– فئة ذات سيادة وحرية مطلقة مالكة تتمتع بكل حقوق السيادة.
– فئة لها حق البقاء في الحياة إن هي خدمت السيد وأطاعت، وإلا فهي عبيد تقف حياته متى قرر السيد ومتى لم تعد له مصلحة فيه.
هذا العقل المعاشي الفيلسوف الطاغي هو الأب الشرعي للعقل الدارويني الإبن البار الأكبر طغيانا، فهو الذي اكتشف قانون التطور من خلال تأمله لسلحفاة الجولاباجوس التي غيرت من حال جسمها ليتلاءم مع متطلباتها، ليبرهن على أن أصل الإنسان قرد تطور ليصبح إنسانا!! واكتشف قوانين أبطل اللاحق منها السابق، وكلما اكتشف قانون قيل: هذا هو السر وهكذا… هذه العقلانية التطورية لم تنته خرافاتها… من آخرها ما أورده الأستاذ عبد السلام ياسين في كتابه حوار الماضي والمستقبل، يقول: (سمعت عالما كيماويا فرنسيا حاز جائزة نوبل للكيمياء. قمة القمم في دنيا الأدمغة الذكية المتفوقة. شرح مباحث البيولوجيين في تنقيبهم عن أصل الحياة على شكل خليات حية بعضها مستقل عن بعض، عاشت الخليات ثلاثة ملايير سنة على حالها، ثم بدأ تطور الخلايا وتجمعها وتركبها وتعقدها في المليار الرابع الذي نحن في نهايته. بعد مليار سنة من تركب الخلايا وتعقدها أفضي بهذا التطور إلى غاية الإبداع التطوري: الإنسان المعاصر ودماغه) 6.
ولك أن تضع من علامات التعجب والاستفهام ما لا حصر له؟! فقد تفوق العقل المعاشي ولكنه اتبع الهوى فضل وانحرف عن الفطرة فهذا هو العقل الضال البعيد عن نور الوحي وهذه هي العقلانية، والإلحاد على قائمة مبادئها كيف لا ونحن نجد في قواميسهم الإلحاد تعريفا؟
هذا العقل الفيلسوف سيطر، وغزا واستعمر واخترع قانون حقوق الإنسان ليحمي نفسه في الغرب ويخفي إلحاده في العالم الإسلامي… وظهرت في العالم قوى عظمى لها حق السيطرة والاحتواء، تقوي من تشاء وتضعف من تشاء… والويل ثم الويل لمن لا يعمل من أجل إرضائها… طغت بعقلها المتمرد المعرض عن سماع الوحي واكتسبت أنصارا عديدين.
واليوم
ها هي دورة الزمان تجد العقل المسلم الموروث لا يزال متشبثا بإسلامه، لكن أمامه العقل الآخر الذي احتل العقول المطحونة في طاحون الثقافة العلمية كما يحتل العفريت من الجن شخصا يتخبطه من المس، وذلك لتفوقه في المجالات الديمقراطية والعلوم والتنظيم والجد في العمل، لكنه بارد إنسانيا، لا يزداد فيه المتغلب إلا أنانية ولا البؤساء في دور العجزة وشوارع نيويورك إلا بؤسا؛ فالإنسان في نظر العقل الغربي المتحضر كم مهمل، لا حرية له ولا كرامة، سوى أنه مستهلك للحضارة، عنصر إباحي أناني…