“قرة عين لي ولك”

Cover Image for “قرة عين لي ولك”
نشر بتاريخ

يقول الله عز وجل في محكم كتابه في سورة القصص، الآية 9: وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ.

“قرة عين لي ولك”؛ كلام رب العالمين أجراه على لسان سيدنا آسية زوجة فرعون، وخلده كتابه إلى يوم الدين.

فرحت فرحا شديدا لما رأت سيدنا موسى عليه السلام وهو في التابوت بعدما ألقت به أمه  الطينية في اليم؛ بثبات  وربط على قلبها من قبل الله عز وجل. وطلبت من فرعون وحاشيته ألا يقتلوه: لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا.

قرت عينها بسيدنا موسى عليه السلام من أول نظرة، وعاش في حضنها ورحمتها. فما كان من الله الحنان المنان إلا أن منّ عليها بالإيمان، وكانت مثالا للصبر لما طالها من تعذيب واستبداد فرعون، واستجاب الله دعاءها: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (التحريم، 11).

فقرة العين لم تختص بها المرأة التي حملت فقط، بل تجاوزتها إلى من ربت واعتنت واحتضنت حتى بلغ أشده: ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما. فجعل الله سبحانه من نصيبها تربية كليم الله في كنفها.

أما فرعون الذي أبى أن تقر عينه بسيدنا موسى عليه السلام فكان هلاكه على يده، وكان من المغرقين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والذي يُحلف به لو أقر فرعون أن يكون له قرة عين كما أقرت، لهداه الله به كما هدى به امرأته، ولكن الله حرمه ذلك” (1).

“لا تقتلوه”؛ رقة وحنان من قلب سيدتنا آسية على طفل لم يحمله رحمها، فاضت عليه عطفا وتوسلت لزوجها بعدم قتله، فامتثل لطلبها رغم طغيانه وجبروته.

في واقعنا لا بد أن ننتبه أن هناك قتل معنوي يمكن أن نمارسه على أبنائنا، ونحن نعلم أن للأسرة، وهي اللبنة الأساس في الأمة؛ دورا مهما في بناء شخصيتهم وتوجيه سلوكهم. فهي إما أن تساعدهم على اكتساب صفات وعادات إيجابية، كزرع الثقة في أنفسهم، وإما أن تقتل فيهم روح المبادرة، والعزيمة، والمنافسة وإبداء الرأي.. وعطفا على ذلك نقول:

لا تقتلوا في ابنكم براءته وهمته وصدقه في الأقوال والأفعال.

لا تقتلوا فيه رغبته في اكتشاف العالم من حوله، مع الاستشارة وتصويب الفهم بالحكمة ورجاحة العقل.

لا تقتلوا فيه زهرة مراحله العمرية بكثرة النصائح والانتقادات.

لا تقتلوه بإهمال تربيته؛ تربية حكيمة قرآنية وواقية، في واقع تفشى فيه الانحلال الأخلاقي وضاعت فيه القيم وساد فيه طمس الهوية.

يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: “الهداية والتوجيه وتربية الشخصية لها أمومة وأبوة كما لخلق الجسم أمومة وأبوة. الخلق خلق الله، والهداية هداية الله، لكن الأم والأب يحسنان رعاية الجسد وتنشِئتَه أو يُسيئانها فتَقْوى بنيَتُه أوْ تضْوَى، ذلك مسؤوليتهما. ويتخذان للنفس الجديدة والعقل المتكون والقلب الفطري مأوىً حاضِنا فيصلُح عملا، أو يتركانه فيرعَى مع الهَمَلِ هملا” (2).

وهذا ما أخبر به الحديث الشريف؛ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من مولود إلا يولد على الفطرة”، ثم يقول: اقرءوا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم. وزاد البخاري في روايته: “فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء. هل تحسون فيها من جدعاء؟”.

“عسى أن ينفعنا”؛ نفع دنيوي وأخروي، وصلاح الأبناء من صلاح الآباء والأمهات. جاء في سورة الكهف أن الله حفظ للغلامين كنزهما لصلاح أبيهما وكان أبوهما صالحا. فالذرية إن كانت صالحة أو فاسدة فهي من عمل الإنسان. وجهادنا أن ننجب مجاهدين ومجاهدات أقوياء أسوياء حاملي رسالة القرآن. فالولد الصالح ذخر للأمة في الدنيا ولوالديه في الدنيا والآخرة.

روى مسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”.

فالتنشئة السليمة للولد الصالح قرة العين لا تنحصر في توفير المستلزمات المادية للحياة من مأكل ومسكن وتعليم… بل تتعداها إلى تهذيب النفس وتزكية الروح منذ الصبا.

يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه: “يُشجَّع الصبيان والغلمان والفتيات على كل حميد من الخلق وجميل من الأفعال مما يقربهم إلى الله ويبعدهم من غضب الله. الصلاة، والقرآن، والرحمة بالضعيف، والنظافة، والصدق، والحياء. الحياء أبو الفضائل، الحياء من أهم شعب الإيمان” (3).

وهذا لن يتحقق إلا بالنية الصالحة الصادقة الخالصة، وبحسن الظن بالله، والوقوف بين يديه مستعينين به ومستمطرين لرحمته أن يصلح ذرياتنا وينفعنا بها دنيا وآخرة فهو نعم المولى ونعم النصير، ثم العمل الدؤوب الصبور.

“قصة وعبرة”

يروى عن السلف الصالح حرصهم الشديد على فضيلة الصدق وغرسها في نفوس أبنائهم. يقول الشيخ عبد القادر الكيلاني: “عقدت أمري منذ طفولتي على الصدق، وذلك أني خرجت من مكة إلى بغداد أطلب  العلم، فأعطتني أمي أربعين  دينارا أستعين بها على معيشتي، وعاهدتني أمي على الصدق. فلما وصلنا أرض همدان؛ خرج علينا جماعة من اللصوص، فأخذوا القافلة كلها، فمر واحد منهم وقال لي: ما معك؟ قلت: أربعون دينارا. فظن أني أهزأ به فتركني، فرآني رجل آخر، فقال: ما معك؟ فأخبرته بما معي، فأخذني إلى كبيرهم فسألني فأخبرته، فقال: ما حملك على الصدق؟ قلت: عاهدتني أمي على الصدق، فأخاف أن أخون عهدها. فأخذت الخشية رئيس اللصوص فصاح ومزق ثيابه، وقال: أنت تخاف أن تخون عهد أمك وأنا لا أخاف أن أخون عهد الله؟! ثم أمر برد ما أخذوه من القافلة، وقال: أنا تائب لله على يديك. فقال من معه أنت كبيرنا في قطع الطريق، وأنت اليوم كبيرنا في التوبة؛ فتابوا جميعا ببركة الصدق”.

رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا.

رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ.


(1) عن ابن عباس قال: لما أتت بموسى امرأة فرعون فرعون قالت: “قرة عين لي ولك) قال فرعون:  يكون لك، فأما لي فلا حاجة لي فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والذي يُحلف به لو أقر فرعون أن يكون له قرة عين كما أقرت، لهداه الله به كما هدى به امرأته، ولكن الله حرمه ذلك”.

(2) ياسين، عبد السلام، تنوير المومنات، ج 2، ص 236، الطبعة الأولى في مصر، دار البشير للثقافة والعلوم – طنطا.

(3) نفسه، ص 249.